حينما تطوف العالم تتعجب لخلق الله وكيف ينتظم الناس في مكان ما حول عادة ما ونظام اجتماعي معيّن فيقيمونه بشكل آلي ودون التفكير في تفاصيله، أو محاولة التوقف عنده.
وبهذا تتبدى اختلافات وثقافات وتنويعات قصدها الله سبحانه في قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.
**حينما تهرول البدوية ناحية أحد خرافها في غيبة راعي بيتها و(تطرحه) أرضاً معملة في رقبته سكينها فهي تقري ضيفاً وتنفذ عزماً.. تعض على برقعها بفمها حتى لا يظهر وجهها وتفصل اللحم عن الجلد وتلقي به بقدر واسع.. ثم تقلبه مع أرزه بصحن واسع وتقدّمه بنفسها لضيوف زوجها الغائب طمعاً في أن يقول لها حين عودته: (ما خاب ظني فيك أنا أشهد إنك بنت رجال).
** لا تتدخل القوانين في الأعراف.. فالعرف حسب تعريف مجمع الفقه الإسلامي الدولي هو: (ما اعتاده الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، والعرف المعتبر شرعاً هو ما استجمع الشروط الآتية:
1 - أن لا يخالف شرعاً، فإن خالف نصاً شرعياً أو قاعدة من قواعد الشريعة فإنه عرف فاسد.
2 - أن يكون العرف مطرداً مستمراً، أو غالباً.
3 - أن يكون العرف قائماً عند إنشاء التصرف.
4 - أن لا يصرح المتعاقدان بخلافه، فإن صرحا بخلافه فلا يعتد به).
** الأعراف هي ترمومتر اجتماعي متبدل.. فالبدوية التي تحز رقاب الخراف للضيف، وتقرّبه في غيبة زوجها.. اختفت خلف حجب الأسمنت.. ولم يعد ثمة من يطرق الباب إلا بموعد مسبق، يتفق فيه مع رب المنزل وراعيه.
** والأعراف هي الثقافة الخاصة التي تسري بين أفراد المجتمع بديناميكية وتمنح المجموع سمة التكيّف والقوانين العامة التي تتعلق بتفاصيل الحياة والتي لم يسن لها قانون ولم ينزل فيها نص!
ومسائل الزواج من أكثر الثيمات التي تستمد تشريعاتها المعتبرة اجتماعياً من العرف المتعارف عليه في مجتمع ما.
** ووصفتُ مسائل كفاءة النسب بأنها براغماتية وقصدت بذلك أنها مسألة تنتمي إلى العرف، العبرة في أنها تخدم مصالح الناس والفكرة ليست قيمة في ذاتها إلا بقدر ما تقدّمه لمصلحة المجتمع بكامله.
والعرف معتبر شرعاً طالما أنه لا يخالف نصاً، والأعراف الاجتماعية في الزواج والنسب معتبرة شرعاً لأن الشروط التي أقرها المجمع الفقهي الدولي منطبقة عليه - فالغالب والمستمر والقارّ في ذهن الناس وهو لا يضر بأحد وتراضى عليه الناس.. فإن على المفتين مراعاته لاعتباراته الشرعية ويكون ذلك قبل الإقرار بالعقد والتراضي عليه!
ومن خالف العرف لا يجرم قانوناً ولا شرعاً لكنه يتحمّل وزر خروجه عن العرف الاجتماعي، وعادة يدفع هؤلاء ثمن ذلك باهظاً من صحتهم النفسية والجسدية؛ ذلك أن الإنسان كائن اجتماعي منتمٍ، يحتاج إلى (عزوة) وشبكة علاقات أسرية ممتدة تدعم وجوده الإنساني وتبارك له خطواته في الحياة وإذا افتقدها كأنما هو فقد الحياة كلها فيكفيه ما هو فيه، لا نزيد عليه بأحكام تفريق أو فصل أو غيرها.. إنه عنصر يحتاج لاحتواء وتقدير حريته وقراره وقدرته على تحمّل النتائج!
** من العقل والاتزان ألا يخرج المرء على العرف المستقر والغالب في مجتمعه، والأعراف التي ليس لها أساس أو مرجعية دينية تتبدل وتتغيّر وفق برامج ثقافية وتوعية هادئة وغير صادمة أو محقرة لما تعارف عليه المجتمع، والتغيير لا يتم عادة عبر بطولات فردية، لكنه يتم عبر برامج عملية جمعية.. مدروسة بعناية.. تخدم مصالح المجتمع بأكمله.
fatemh2007@hotmail.com