.... وفي حديثه عن الضيافة، في قصر الحكومة بمكة، حيث كان كبار الوفد المصري
من المدعوين على مائدة الملك عبدالعزيز رحمه الله، في حجّ ذلك العام كالمعتاد، في كلّ عام.. قال:
فأبرزنا بطاقاتنا، ولاحظنا أنّ المدعوين يوزَّعون على ثلاث حُجرات في القَصْر، فاستقبلنا رجال التشريفات، فأدخلوا كل واحد حسب لون بطاقته، فسألنا عن القاعدة في التوزيع؟
فقيل إنّ المدعوين يجلسون في ثلاث غرف: الأولى حجرة جلالة الملك المعظم، التي أدخلوني فيها، والثانية لنائب الملك في الحجاز، والثالثة لسمو ولي العهد المعظم. ثم ذكر موقفاً طريفاً، قرر معه أن يخرج قبل تناول طعام العشاء مع رفيقه، فَحَبكا الحِيلة وخَرجَا.
وعند الدرج سألهما رجل التشريفات عنْ مقصدِهما، فأعطياه أعذاراً مختلفة، فقال لهما: إن التقاليد لا تسمح بما قلتما في القُصُور، وفي الجدال معه في هذا الموقف الخرج، قال: إنني مصري أصْلاً، وتقضي علينا أخلاقنا، أن نكون أمناء على ما يسنده إلينا رؤساؤنا، في أي بلد كنا، وهذه تمنعني من السماح لكما بالانصراف، ولكني في الوقت نفسِهِ مكلفٌ بالعمل على راحتكما، وكل الزائرين، وأنا مِصْري واسمي عبدالسلام غالي من الأزهر الشريف، ومن مديرية البحيرة.
ثم بيَنا حقيقة له حقيقة السبب، فقد خشينا أننا لم نُنزّل بمكانتنا، فقال: إنّ العلماء ورجال القضاء هنا محترمون، وليس توزيع الأماكن في هذا الاحتفال مبنياً على أقدار الرجال، وإما لحصر الذين يدخلون في كل غرفة، ولكثرتهم لا بدّ من توزيعهم، على ثلاث غرف، حتى إذا شرّف الملكُ غُرفته وجلس ذهب الجميع لمقابلته والسلام عليه، ثم يذهبون جميعاً إلى غرفة المائدة، حيث يجلسون على مائدته دون تمييز. (ص136 - 139 باختصار). ثم وصَفَ المائدة، وما عليها من أطايب الطعام: الذبائح والسمك، وأنواع اللحوم والفاكهة، بطعام كثير على صحونٍ متفرقة، كل واحد منها: عليه ثلاثة أو أربعة فقط.. وكان معجباً بالملك عبدالعزيز، ومجالسه وما يُلقى فيها من الدروس، وما بها من التنظيم، ثم بما أُعطي مِنْ القهوة العربية.. وما رأى في قصره من الديموقراطية العربية الصحيحة، والكرم العربي المطبوع، والأدب العربي المؤسس على الغريزة، وتمسّك العرب - ويعني الملك عبدالعزيز - بدين سيد المرسلين (ص140 - 143).
وتحدّث عما أعجبه من ظاهرة الأمنِ، في هذا العهد الجديد، وما شاهده في دار الحكومة والقضاء ورجال الأمن والمحافظة على أمتعة الحجاج، مهما خفّ ثمنها، وما يفقد منها، حتى لو كانت زجاجة ماء، حيث زار القضاة والأمن باعتباره كان مفتشاً بوزارة الداخلية وقاضياً، ورجل أمن، وليكون لكلامه قبول؛ فقد جاء بشواهد، جعلت البلاد في نظر الحجاج، في فترة زمنية وجيزة مثالاً لم يسبق لبلاد أن شهدت مثله؛ لتطبيق الشريعة، والحزم في ذلك.
حتى صار المجرم يخاف من تطبيق الحقّ الشرعي عليه؛ لأن الأحكام بدون تفريق تسير على تطبيق الشريعة في الحدود، التي تسري على الجميع حرفاً بحرف، طبقاً للقانون السماوي، الذي جاء في القرآن الكريم، فأصبح موضع إعجاب العالم كله؛ لذا تكاد السرقات أن تكون منعدمة في مملكة ابن سعود.
وأعجبه من نتائج ذلك الأمن أنّ وكيل الحكمدار (الأمن العام) تجد عنده كل شيء فَقَده صاحبُه غلا أو رخُص، لا يستطيع أحدٌ أن يسمه خوفاً من العقاب، وقديماً كان بعض المسافرين للحج يتظاهرون بالحج والرغبة فيه، وما كانوا يقصدون غير السرقة، والنهب. ثم بعدما ذكر نماذِج مما لديهم في مصر من انتشار جريمة السرقة حتى أنّ أحدهم يأتي للمسجد لا حُباً في الصلاة وإنما ليسرق حذاء رخيص القيمة ويهرب به.
إلا أنه - وهو القاضي في بلده - قد أعجبه هذا العمل في بلاد الحرمين والحجاز ونجد وغيرهما، مِن أمْن لا مثيل له؛ لأن العلانية في الأحْكامِ، والشدة والدقة من الملك عبدالعزيز في التنفيذ هي صاحبة الفضلِ في الأمن في ربوع هذه البلاد المقدسة.
فليس الوقوف بين يدي الله في العبادة التي لا إخلاص فيها رادعاً للناس؛ فالناس الخبيثة لا يردعها إلا الخوف من العقاب السريع الزاجر، أما مخالفة الناس لله - جل وعلا - فكثير منهم، يستهينون بها.
وقد تحدّث كثيراً عن ظاهرة الأمن، وحِكمة الملك عبدالعزيز وحرصِهِ على التطبيق، وهذا من إعجابه الشديد بهذه الظاهرة ص141.
وعندما وقف على بعض القصور أحبَّ أن يقارن بين عهدٍ وعهدٍ، في نظرة تأملية للاعتبار فقال:
ذكرتُ إذْ ذاك الفرق بين حُكم الحجاز اليوم، وحُكمه في العهد الماضي، والأمن الحالي، والأمن السابق، وعَسْفُ الحكّام في الأيام الخوالي، وعدْلهم في العهد الحاضر، وأدركت أن انهيار ذيّاك السلطان، واندثار ذلك القصر، الذي شاهدته في القشاشية إنما كانَ جَزاء وِفاقاً، وأن الله جلّتْ قُدرته قدْ أخذ حق عباده المظلومين من عبادِهِ الظالمين، وقيّض رجال الحُكْم الحاضر؛ لينْشُروا الأمْنَ في أرضه المقدسة، ويُشيعُوا الطمأنينة في نفوسِ الذين، تهوى أفئدتهم إلى أهل الحجازِ، بالعطْفِ والرحمة.
لقد كاد الناس قبل العصر الحاضر أن ينقطعوا عن فريضةِ الحج والعمرة، والزيارة لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم محِقون؛ فلقد كان الحاج يخرج من داره، وهو معتقدٌ أنه متعرّضٌ للخطر وللموت؛ ولذلك كان أهله يبكون عند خروجه في سفر الحج؛ لأنهم يعتبرون هذا الوداع الأخير؛ لفقدان الأمن، وتسلّط اللصوص. ولعلك أيها القارئ لا تُدرك قيمة أرواحِ الناس في ذلك العهد؛ فلقد كان القتل في تلك الأراضي أمراً هيناً، وإذا ظننت أنّ في ذلك أية مبالغة فإليك الشاهد مما كتبه المغفور له إبراهيم رفعت باشا، في رحلاته التي انتهت عام 1908م (1326هـ).
فقد ذكر في زيارته لجبل النور (في غار حراء) بالصفحة التاسعة والخمسين (ينبغي لزائري هذا الجبل أنْ يحملوا معهم الماء الكافي، وأنْ يكونوا جماعاتٍ، يحملون السلاح؛ حتى يدفعُوا عن أنفسهم شرَّ اللصوص من العربان الذين يتربصون لسَلْبِ الحجاج؛ فقد بلغني أنّ أعرابياً قتل حاجاً فلم يجد معه غير ريال واحد، فقيل له: أتقتله من أجل ريال؟ فقال وهو فَرِحٌ: إن الريال أحْسَن مِنْهُ!! فانظر كيف بلغت القسْوة في هذه القلوب.. إلى آخر ما ذكر إبراهيم رفعت في كتابه.
ثم قال: ويبدو لي أن إبراهيم رفعت باشا يُحمّل الحكام هذه المسؤولية، وإن كان يذكر ذلك بأسلوب الحكيم..
ثم بدأ يعرّض ويصرّح في عدم كبح الشرور ذلك الوقت، ثم نقل عن إبراهيم رفعت قوله: لقد سمعنا إذْ كنا في الحجاز مِن رجُلٍ محترم حضر العهدين أنّ رجال الحكم فيما مضى كانوا على اتصال بالقتلة والسفاكين واللصوص، وكان لبعضهم على بعض إتاوة، والعهدة في ذلك الوقت طبعاً على الراوي.. وهو كما قلنا رجُلٌ محترمٌ.. وقد ساق في التدليل على ذلك قصة رجل فَقَد أمتعته، وكيفية البحث عنها في سنةٍ من السنين، على أني لا أجد مجالاً للشك في تلك الروايات كلِّها.
وإلا فما سبب انقلاب الحال من فوضى الأمْسِ إلى أمْنِ اليوم، إلا أن يكون الانقلاب من ظلم الأمس، إلى عدل اليوم. ثم أثنى على هذا العهد، الذي ضَربَ فيه الملكُ عبدالعزيز - رحمه الله - أروعَ المثل بالاهتمام والملاحقة، واختيار الرجال المخلصين، وآثار ذلك ظاهر عند المسلمين في كلّ مكان.. (ص152 - 158 باختصار).
ولقد سار أبناء عبدالعزيز على دربه في الحرص على الأمن، وتطبيق شرع الله، وقد ختم كتابه ببعض الاقتراحات منها ما يتعلق بالقبور في البقيع بالمدينة، ورغبته إعادتها بما يميزها من القُبب، وهذا يتصادم مع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا يَدَعَ قبراً مشرفاً إلا سواه، ونهيه صلى الله عليه وسلم أن يكون قبره وثناً يُعبَد، مع لعنته لليهود والنصارى - عند موته - صلى الله عليه وسلم لهم بقوله: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا قبري عيداً). نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، وأن يجمع قلوبهم على الحق، إنه سميع مجيب.
من أخبار الخوارج:
جاء في كتاب الكامل للمبرّد، قوله: يروى أنّ رجلاً شديد السواد، شديد بياض الثياب وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقسم غنائم خيبر، لم تكن إلا لمن شهد الحديبية، فأقبل ذلك الأسود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عَدَلْتَ منذ اليوم. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رئي الغضب في وجهه. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ألا أقتله يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيكون لهذا ولأصحابه نبأ. وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ويحك فمن يعدل إذا لم أعدل. ثم قال لأبي بكر: اقتله فمضى ثم رجع. فقال: يا رسول الله رأيته راكعاً. ثم قال لعمر: اقتله: فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله رأيته ساجداً.
ثم قال لعلي: اقتله. فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله لم أره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو قُتل هذا ما اختلف اثنان في دين الله. قال أبو العباس: وحدثني إبراهيم بن محمد التيميّ، قاضي البصرة، في إسناد ذكره أنّ علياً رضي الله عنه وجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بِذَهَبةٍ من اليمن فقسمها أرباعاً، فأعطى رُبْعاً للأقرع بن حابس المجاشعي، وربعاً لزيد الخيل الطائي، وربعاً لعيينة بن حصن الغزاري، وربعاً لعلقمة بن عُلاثة الطلابي. فقام رجل مضطرب الخلْق، غائر العينين، ناتئ الجبهة، فقال: لقد رأيت اليوم قِسْمة ما أريد بها وجه الله. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تورّد خدّاه، ثم قال: أيأمنني الله عز وجل على أهل الأرض ولا تأمنوني. فقام إليه عمر فقال: يا رسول الله أأقتله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنّه سيكون من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السّهم من الرمية: تنظر في النصل فلا ترى شيئاً، وتنظر في الرِّصاف، فلا ترى شيئاً، وتتمارى في الفوق.
وقوله صلى الله عليه وسلم: من ضئضئ هذا: أيْ من جنس هذا، يقال: فلان من ضئضئ صِدْقٍ، ومن مَحْتد صدق، وفي مركّب صدق (2: 141 - 142).