في فترة وجيزة كانت هناك أحداث في لبنان وأخرى في السودان وقبلها وما زال في الصومال، وفي فلسطين قبل ذلك. هذا الأحداث السياسية لم تكن كذلك في معظم غاياتها وأسبابها، بل هي مزيج بين السياسة والمطامح الشخصية، وربما المطامع. وكل مدافع في الأغلب عن رأي بعينه كان يخفي تحته مزيجاً بين الإيمان بذلك الرأي ومطمح شخصي لا يمكنه البوح به.
كم نسمع من كثير من أولئك القائمين على أبواب هذه السياسة كلمات رائعة، ودفاع عن الوطن والمواطن، وقبلها الدين، ومع هذا فالمطمح الشخصي كان وما زال هو المؤثر والفاعل والدافع والمانع، والساعي يسعى في سعايته لنيل مراده فحسب راكباً مطية تلك الأهداف النبيلة، ويميل حيث تميل الريح، ويتحدد اتجاهها.
بعض القائمين على أبواب تلك السياسة، يتصارعون لغاية، ويلهثون بالوشاية، ويتسابقون على الأقوال ولا يتوانون عن الأفعال، إن كانت النتيجة تحقيق شأو، وبلوغ مرام.
السياسة حكمة، والسياسة خدمة، والسياسة عمل الخير، والسياسة سعي بالمعروف، لكنها تكون وبالاً إذا غلبت الأهواء والمطامع.
لقد علمتنا الحياة أن الأمر لا يستقيم إذا تساوت الفرص للوثوب إلى الكرسي دون قانون محدد، أو مروءة تمنع، أو قوة تبطش، فعند تساوي الفرص دون تلك الحواجز، فكل يرى نفسه القادر، ويحسب أنه المؤهل، وأن الأمر أمره، والحق حقه، فتتعالى الأصوات ومن بعدها يتم التجاوز باللسان إلى التشابك فيرتفع السلاح، فيحل الهدم والدمار. عندما لا يكون الحارس قوياً يضيع المحروس وعندما لا يستخدم ما لديه في وقت الشدة قد يفلت الزمام من بين يديه فيختلط الحابل بالنابل، ويتمازج الحق مع الباطل، فيضيع الجميع كما ضاع حمار أم عمرو.
علمنا التاريخ أن القيادة القوية التي تمسك بزمام الأمور، حتى وإن كانت متسامحة رؤوفة لينة كريمة، تسود ويعلو شأنها، لأن القوى الأخرى تبلغ اليأس، واليأس رحمة. فيبقى صاحب القرار واحداً، والكلمة العليا بيده فينتهي الأمر عند ذلك الحد، وتسير الأوضاع من حسن إلى أحسن حتى وإن صاحب ذلك بعض الأخطاء والأهواء والتجاوزات.
كما علمنا التاريخ أن القانون القوي الذي يقف عنده الجميع ويحكم بين الطامحين يمكنه أن يقدم من ينطبق عليه فتعلو كلمة واحدة وتسود، ويحترم الآخرون ما قدمه القانون مرغمين، غير قادرين على تجاوزه نظراً لقوة القانون وبطشه، وأصر على كلمة بطشه، لأننا في عالمنا العربي قد نحتاج إلى ذلك في بعض الأحايين.
علمنا التاريخ أن نترك الأمر دون قوة سائدة تكون مرجعاً نهائياً يختصم إليه الطامحون والطامعون ويكون قوله هو الفصل، لابد أن ذلك سيجعل الأصوات تعلو، ثم تبلغ السيوف الحناجر.
بناء الدول يريد قيادة حتى وإن كانت ظالمة إلى حد ما، فيجتمع الناس قابلين أو مرغمين حول رأس واحد، وإلا تعددت الرؤوس وكثرت المنافسة، وزاد عدد المتنافسين، فتغرق السفينة بمن فيها، وكان مكانها قاع البحر لا سطحه.
كان عبدالرحمن بن معاوية قوياً ظلوماً في بعض الأحيان، ومثله كان حفيده الحكم الربضي، وكذلك عبدالرحمن الناصر، ومع ذلك كانت الدولة الأموية في الأندلس مستقرة في أزمنتهم لأن العمود صلب، والحيطة حاضرة، والحذر لا يترك للاحتمال مدخلاً، ومع هذه القوة والبطش أحياناً كانت الدولة مستقرة، والناس بخير، والفتنة نائمة.
وعندما كان خلفاء بني أمية، بالأندلس المتأخرين بعد عبدالرحمن الناصر، حتى مع صلاح بعضهم الشخصي مثل المستنصر فقد كان وميض النار يخرج ليكون له ضرام فيما بعد، فذهبت ريحهم.
إن بعضاً من الدول العربية اليوم ليس لديها من الأنظمة أو القوانين أو أسلوب الحكم ما يجعلها تختار لها رأساً واحداً يحتكم إليه الجميع، وينتهي الأمر إليه، وتكون كلمته نافذة، ورأيه سائد فيكون الصراع. والصراع هذا ليس بسبب رأي مطروح، ومصلحة عامة، وإنما مصالح شخصية، و حولها تكون الدندنة.
أقول إن أغلبنا لديه مطامح ومطامع وهذه جبلة إنسانية خلقها الله في البشرية ومن خلالها يسعى ويعمر الأرض، لكن عندما يكون لكل منا حدوده، ومبلغ شأوه، فسوف يقتصر دونه، ويقف عند سوره، لا يستطيع أن يتجاوزه مهما خالجته نفسه، أو دفعته مطامعه وأهواؤه. والأمل في الله كبير، والثقة فيه عظيمة، وندعو الله أن يصلح الحال، ويحفظنا وأمتنا من كل مكروه.