يتجلى المعنى فيما بين الإنسان وأخيه الإنسان، وفيما بينهما وبين الحياة من خلال الإحساس الواعي والمرهف بمكانهم من دائرة الواجب والمسؤولية نحو صياغة وتفعيل قيم الخير في الحياة.
وبهذا يتميزُ الوجود، ويستقيمُ الأمر وفق سنن الخالق عزَّ وجلّ، ويتمثلُ هذا الواجب وتلك المسؤولية من خلال منظومةٍ من الروابط اللازمة لحياة آمنة ومثمرة، ومن ذلك علاقة الإنسان بخالقه وبوالديه وأبنائه وأفراد أسرته، وقدرته على صلة الرحم والحرص على ما هو لازم لوجودٍ كريمٍ وفق ما يبذله من سعي وكدحٍ لتحصيل العلمِ، وكسب الرزق وخلقِ علاقةٍ متميزةٍ بالوطنِ والمجتمع، وهذا كله يتميزُ حين يمتزجُ بقيم الدين الحنيفِ، وكذلك ما تعارف عليه أبناء مجتمعه من قيمٍ وأخلاقٍ كريمةٍ.
إن فهم جوانبِ هذه الدائرة سيمهدُ لعملٍ جادٍ ومضنٍ، ولذا فالطريقُ طويلٌ والمسافةُ أبعدُ، إنها أبعدُ في الأساس بين الإنسان ونفسه، فهو في حاجة إلى استنهاض إرادته بتواصلٍ لا ينقطع، ووعي وإيمان، إنه جهدٌ وجهادٌ أكبر مع النفس وكل الظروف، جهاد أكبر يُضني ويتطلب من القيم والالتزام بها كالإيثار ورفضِ وسوسةِ الذاتِ، وما تُوحي به من أنانيةِ كما لو كان هذا الكون لها بمفردها.
كما يتطلب الأمر عطاءً بوعي وامتنان، عطاء من النفس تمدّه يدٌ كريمة تعرف الأبعاد والأسباب من وراء ذلك، وهذا الوعي يتم من خلال أيسر الطرق إلى النفس، حيث القدرة على ترويضها، واستنهاض ما أودع الله فيها من خيرٍ يكبت نوازع الشر فيتحقق الأداء الأحسن، وحينها يلزمُ الحذر والحيطة والتمسك بثوابت الطريق حتى لا يضيع من قدميه.
وفيما نفرضهُ على النفس أو نسألها به مدخلٌ قد تنغلقُ أبوابه، أو أن جهد الدخول يتيسر من خلال معرفة النفس بالقدر الممكن وممارسة الحكمة واللين نحو ذلك، حينها سنجد أننا في علاقة وثيقة مع النفس المطمئنة، وبها ومعها نكبتُ ما توحي به النفس الأمارة بالسوء، والمحصلة هدوءُ النفس اللوامة (الضمير)، وهذا كله ستحكمه مقاييس النسبية، فليس بمقدورنا تحقيق ذلك، وبهذا اليسر فنحنُ في جهادٍ مع النفس بتوالٍ متصل، فهي الأقربُ إلى برمجة مناهج السلوك من جميع نواحيه.
ونجاحُنا لمرةٍ لا يعني انطلاق القدرة، وتمام السيطرة على النفس فهكذا نحن والنفوس منا كما شاء الخالق، ولكن بأيدينا من الوسائل ما يمكننا من إنجازٍ موفق طالما أن الإيمان والوعي والإرادة من يقود دفة الطريق.
كما أنّ محاولة فهم ما يكتنفنا من نقصٍ نافعٌ للجهد الذي يُبذل للحدّ منه، فلا أحد منا يحلم بالكمال وإن كان التكامل هو الممكن.
وكما تسيرُ الحياة نسيرُ، مفهومٌ لا يتحقق معه وجودٌ ذو معنى للعقول التي وهبها الله لنا، ولا يزيدُ من رصيد يومِ الحساب، كما أنه ليس ذا معنى ونحن من يخطئ ويصيب.
ومنْ سَهلِ الطريق أن لنا في الوحي المُنزّل على الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - كلَّ هدى نرجوه، وكثيراً من الأنوار القادرة على طمس ظلام النفوس، كما أنّ رصيد المجتمع وأعرافه غنية وزاخرة بما يدفعنا إلى مزيدٍ من التنافس على الأفضل من معطيات الخير، وبهذا تتحقق معادلة مهمة، وأعني القدرة على الاستفادة من المجتمع وإعطائه ما يسمو به ويستقر معه في أحضان الخير والخلق الكريم.
هذه خاطرة لا علاقة لها بجمهورية أفلاطون، بل إنها من وحي الحياة الخاضع لدين الله وللبناء الاجتماعي الذي لا زال عامراً بالكثير من نوازع الخير بل هي جوهر وروح الوحي الكريم، فمن أمرنا وأنار لنا الطريق هو خالقُ السائر والمُسير الذي حتماً له مصير نتمنى معه بالعمل والمجاهدة ما يقربنا من رحمة الرحمن الرحيم.
إنّ هذه الخاطرة وما تدعو إليه من جهدٍ واجتهادٍ مثمرٍ تعتمدُ على إدراكِ وتفعيل الإرادة بعد العلم، والتدرب وذلك بقدرة الوعي على إدراكِ فروق جليّة بين الإنسان وما عداه ممن خلق الله، فالإنسان بإرادته ووعيه حقق ولا زال يحقق إنجازاً باهراً من مكتسبات العلم كما تمكّن من إخضاع الكثير مما حوله مستخلصاً من ذلك مكاسب تزيد من تقدمه وتمنحه المعنى لوجوده، وللقوة الكامنة في تكوينه، وبهذا طور ويطور وجوده بحركة هي في الغالب متزنة ونافعة.