منذ أن عرفت الأمة العربية، في تاريخها المعاصر، محنة الانقلابات العسكرية والشعب هو الخاسر المظلوم.. |
|
فباسم الشعب يقفز نفر من المغامرين على دار الإذاعة ويصدر البيانات ويعيش في عذاب ومجد كاذب، عدة شهور، أو حتى عدة سنين، لتأتي مجموعة أخرى من المغامرين تسطو على المجموعة الأولى، وتنتزع منها الحكم، ثم تأتي مجموعة ثالثة من المغامرين أيضاً، ويستمر صدور البيانات باسم الأمة واسم الشعب.. |
وباسم الشعب ينهار اقتصاده ويضنيه الكساد والركود. |
وباسم الشعب تغتال الحقوق وتصادر الممتلكات، ويقضى على كل من يفتح فمه بالشكوى أو الاعتراض.. |
وباسم الشعب يضيع كفاح العصاميين، وينكر عليه حقهم بالمواطنة والضمانات، ويتحولون بجرة قلم إلى لصوص تلاحقهم اللعنة والاضطهاد. |
وباسم الشعب تزخر السجون بأصحاب العقيدة والرأي إذا لم تذل - على أصحابها - تلك العقيدة، أو يهون ذلك الرأي. |
وباسم الشعب يشرد البناة والقادة من بلادهم، ويبحثون عن الستر تحت أي سماء ويبكون وطناً ضائعاً وشعباً يعبث بمقدراته الصغار. |
وباسم الشعب تفرض على الشعب أنظمة اقتصادية واجتماعية غريبة عليه تحمل في مضمونها تحدياً جريئاً مستهتراً لكل تقاليده، ومعتقداته، وتراثه الحضاري. |
وباسم الشعب يجوع الشعب ليرضي الحاكم كبرياءه السياسي وينفق الملايين في مغامرات رعناء، ويزهق معها مئات الآلاف من النفوس المطمئنة البريئة.. |
وباسم الشعب تحاك المؤامرات السياسية لتقويض أركان السلام في بلد مستقر متطور نام. |
وباسم الشعب تجند وسائل الإعلام لتصنع الأكاذيب وتزيد من جفوة القلوب بلا خجل ولا حياء، ولتغرق المواطن العربي المسكين في حيرة عاصفة من التضليل يفقد معها ثقته بكل شيء، حتى ثقته بأمته العربية وتاريخها، وقدرتها على الحياة.. |
وباسم الشعب يفعل الانقلابيون ما يريدون ليعيشوا أيامهم عرضاً وطولاً ويشبعوا جوعهم للحكم، وشهوتهم للسلطان، ما دام أن المغامرة والخطر وسيلتهم إلى قمة الحكم والسلطان. |
نعم باسم الشعب يشقى الشعب، ويجوع، ويصبر، ويذل، ويكابد، ويتفرج على حماقات حكامه باستسلام. |
أليس من أجله وفي سبيله قام الانقلاب.. |
لقد احتشدت هذه الخواطر في رأسي وأنا أقرأ رسالة وردتني من صديق كان يوماً من الأيام ضابطاً كبيراً في بلده وشارك في إصدار بيانات انقلابات عسكرية حسبت على الشعب وقيل إنها تجسيد لطموحه.. وتعبير عن أمانيه. |
جاءت رسالته بحثاً عن عمل يعيد إليه إحساسه بأنه إنسان قادر على العمل الهادئ النظيف.. يطلب العمل والطمأنينة في بلدي، في المملكة التي كثيراً ما وصفها بالتخلف والرجعية والجمود.. |
ومع هذه الخواطر تساءلت في أسى مرير كم انقلاباً أو محاولة انقلاب شهدت البلاد العربية منذ أن عرف تاريخنا السياسي المعاصر هذه الظاهرة السياسية المشؤومة.. |
وكان الجواب أربعين حدثاً سياسياً ما بين انقلاب ومحاولة انقلاب، كلها جرت في مدة ستة عشر عاماً. |
هذا فضلاً عن حوادث الاغتيال السياسي الفردية منها والجماعية.. |
ولولا اعتبارات المجاملة السياسية وحرصنا على أن لا يكون في الذكر الصريح جرح لمشاعر الأشقاء لاستندنا على وقائع التاريخ الذي لا يجامل ولا ينسى.. |
وتساءلت أيضاً عن حصيلة هذه الأحداث السياسية.. فكان الجواب. جواب اليقين أيضاً، أن الحصيلة لم تكن إلا خراباً.. وتخلفاً.. وضياعاً. |
خراب في موارد الدخل والاقتصاد، وتخلف في دفع تطوير مستويات تلك الشعوب، وضياع تلاحق آثاره المواطن العربي المسكين في تلك البلاد - بلاد |
الانقلابات - في عمله.. وحريته، وكرامته، وتطلعه إلى الحياة. |
|
أما على الصعيد الخارجي فالحصيلة سقوط في رصيد العرب السياسي، وضعف وشقاق يشحنان إسرائيل بالمزيد من القوة والتربص والاستعداد. |
وكلما وقعت المأساة يرتفع صوت الانقلابيين ليطغى على أنين الشعب البائس المسكين وليطلق الانقلابيون على أنفسهم لقب الثوريين وعلى سيئاتهم اسم (مكاسب الشعب الثورية).. |
كانت الانقلابات العسكرية وقفاً على دول أمريكا الجنوبية.. وظل هذا الجزء من العالم مثلاً مرعباً على فقدان الاستقرار السياسي، حتى أصبحت هذه الظاهرة السياسية المشؤومة - لسوء الحظ - الوجه السياسي المميز لجزء كبير من بلادنا العربية العزيزة. |
أمريكا الجنوبية مستودع ضخم للثروات الطبيعية على اختلاف أنواعها، فهي بلاد الغابات والسهول الخصبة، والمعادن، والأنهار والبحار، ومع ذلك فإن شعوبها تعتبر من الشعوب الفقيرة المتخلفة؛ لأن الانقلابات العسكرية المتلاحقة قضت على استقرارها السياسي وحين يضيع الاستقرار السياسي تضيع معه كل مظاهر الخير والعمل المنتج. |
وأتطلع إلى بلادي لأجدها تسير سير الواثق المطمئن في طريق البناء، بلا ضجة ولا أعراس، وتحاول اللحاق بالزمن، بالخطوات الراسية الصامدة، لا بالجري السريع الذي يستنزف الطاقة ويقطع الأنفاس. |
تسير بلا خوف.. بلا تردد.. بلا تقليد، ومن غير إحساس بمركب النقص الذي عانى آثاره الكثيرون.. تسير لتبقى، كما أراد الله، أمة لها عقيدتها، ولها تاريخها، ولها مسؤوليتها، وعليها نصيبها من الكفاح أياً كانت أسباب هذا الكفاح. |
وأنظر إلى بلادي في حاضرها وأعود بالذاكرة إلى ماضيها قبل عشرين عاماً.. فأرى ما يجب أن يراه المنصفون بعين خالية من الحقد والهوى، أرى عملاً ضخماً تم في ظروف ليس لها في صعوبتها مثيل. |
وأتطلع إلى مستقبلنا فأجده مستقبلاً حافلاً بالآمال، في بلد آثرها الله بالقداسة والغنى، فما علينا إلا أن نستمر في طريق البناء بالعمل الصامت بلا ضجة ولا أعراس، فلا حاجة للقول حين تتحدث الأعمال..؟ |
قرأت رسالة صديقي الذي كان في يوم من الأيام ضابطاً كبيراً في بلده.. وأشفقت عليه ورثيت لحاله واستعرضت بالذاكرة الحشد الهائل من المغامرين الذين سطوا على شرعية الحكم في بلادهم وجنوا على الشعب فطحنتهم الحياة حين أكل بعضهم البعض بضراوة تفوق ضراوة الوحوش، وصدق من قال: |
والنار تأكل بعضها |
إن لم تجد ما تأكله |
|
هذه المقالة نشرها معالي الشيخ جميل الحجيلان قبل أربعين عاماً في صحيفة المدينة، والجزيرة تعيد نشرها لما تحمله من مضامين وأفكار ورؤى كتبت بأسلوب رصين، تعيد نشرها لأنها أيضاً نشرت في عهد الملك الشهيد فيصل بن عبدالعزيز الذي يتذكره الوطن والمواطن هذه الأيام بشيء من الوفاء. |
الشيخ الحجيلان عمل وزيراً للإعلام وللصحة وسفيراً للمملكة في فرنسا وأميناً عاماً لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، وهو مثقف كبير، ولهذا نتمنى عليه أن يعود كاتباًمن جديد، وأن يكون تفسير انقطاعه عن الكتابة لا يعدو أن يكون استراحة محارب. |
|