أتاحت لي دراستي في مرحلة الدكتوراه تتبع الفكر السياسي العربي المعاصر وقراءته قراءة تحليلية نقدية في جُلّ منعطفاته الداخلية وغالبية انحيازاته العالمية وأكثرية علاقاته الثنائية المنظورة والمستترة على حد سواء. ولقد أصبح لدي قناعة تامة بأن هناك في تاريخنا العربي المعاصر أناساً متنفذين وربما متسللين إلى البلاط، ولهم يد في اتخاذ القرار، ضحوا بشعوبهم الذين كانوا آنذاك وما زالوا يراهنون عليهم بل بالأمة التي ينتمون إليها وبالتاريخ والأرض وباللغة والعرض، وقبل هذا وذاك بالقضية التي هي مطيتهم للوصول إلى ما تهفو إليه نفوسهم المريضة، ضحوا بذلك كله من أجل مصالح الشخصية البسيطة وإن عظمت في نفوسهم الدنيئة. ويذكر التاريخ أنهم كانوا يخرجون للجماهير، للشعب العربي الصامد من أجل القضية أياً كانت هذه القضية، ومن حولهم ومعهم المصفقون والمهللون المستأجرون، ويخطبون باسم الوطن ومن أجل القضية، يلعنون ويشتمون ويسبون ويتوعدون ويحلفون ويقسمون الأيمان المغلظة على أنهم هم قبل غيرهم بل هم وحدهم دون سواهم أصحاب القضية المدافعون عنها الذين لا ينامون الليل من أجل راحة الجميع واسترداد الكرامة العربية والأرض المستباحة والعرض المنتهك والحق المسلوب، وتصفق الجماهير وتنام قريرة العين؛ فهي في ظنها أنها قد أوت إلى ركن شديد، وهم حين المساء وفي الخفاء يتسابقون في تقديم براهين الولاء وقرابين الطاعة لألد الأعداء. وهذه القناعة صارت عندي - مع مرور الزمن وكثرة ما يعيد التاريخ العربي نفسه وبذات الصيغة التي تجمع بين المتناقضات - مُسلَّمة من المُسلَّمات التي أكدتها ووثقتها الإرهاصات والتداعيات العديدة وربما هي أعمق ترسخاً عند مَنْ هم أكثر مني دربة ودراية نظرياً وتطبيقياً سواء أكانوا من الباحثين المتميزين القارئين لما خلف السطور والأحداث السياسية المتتابعة الجادين في التحليل المبني على الربط والمقارنة والفعل والنتيجة خاصة أولئك الذين أتاحت لهم علاقاتهم الشخصية وصفتهم الرسمية التقليب في الأوراق والملفات التي لا يسمح لغيرهم الوصول إليها، أو أنهم ممن خاضوا غمار المضمار السياسي وعرفوا دهاليزه ورموزه ومنعطفاته وتعرجاته المختلفة.
وتأتي أزمة لبنان الحبيب لتجدد الجراح، وترسخ القناعة التي أشرت إليها أعلاه. ولو تابع القارئ الكريم ردود الفعل التي تناقلتها وسائل الإعلام خلال الأيام القليلة الماضية سواء من قِبل قوى الفصائل اللبنانية المختلفة أو ممن لهم صلة بالحرب هناك ولو من طرف خفي لوصل إلى ذات القناعة المؤلمة بحق لكل إنسان يحترم كرامة بني آدم ويؤذيه لون الدم ونزيف الدم وألم الجراح والصراخ عند المساء وحين الصباح ولو كان صراخ طفل لا يُعرف من أي جنس كان..
إنَّ الحل الوحيد لأزماتنا المتتالية والطريق الصحيح لحقن الدم العربي كشف وإقصاء أولئك الراقصين على الدم الذين يبيعون القضية على حساب الادخار، وفي المقابل فتح الطريق أمام الصادقين لتوحيد الجهود من أجل الوطن وسلامة المواطن وسعادته، وهم - وحتى لا يفهم التعميم - لهم تواجدهم وجهودهم في هذه القضية الساخنة وما ماثلها، ولكن قد يكون صوتهم أضعف، وحقهم مهضوماً، أو أنهم يوضعون أمام المواطنين على حد سواء مع بقية المتترسين باسم السياسة الداخلية الحرة من أجل خيانة القضية وبيع الوطن، والثمن قد يكون مقبوضاً سلفاً أو أنه وعد ما زال في رحم الغيب.
ومن باب ضرب المثال فحسب تحدث عصر يوم الجمعة الماضي أحد أولئك الراقصين عن هذه الحرب التي اشتعل أوارها من جديد، وكأنه يصف مباراة في كرة القدم تجري بين فرق تتنافس على البطولة والفوز بالكأس، فاللاعبون الأساس هم من يجب أن يكونوا في الميدان والبقية مهما كانت منزلتهم لا بد أن تكون مع زمرة المتفرجين المصفقين أو حتى الصامتين بحذر انتظاراً للفرج، وموقعها الحقيقي مقاعد المدرجات حتى النهاية، ليعرف من البطل!! وفي المقابل كان كلام رجل عرّف بنفسه بأنه شيعي المذهب في الأساس، علماني ليبرالي الفكر والرؤية كما يقول هو عن نفسه، يعمل في جريدة المستقبل، كلاماً رائعاً متزناً، إنه باختصار كلام العقل حين تعصف الفتنه ويسفك الدم؛ إذ إن الخسارة كما يقول هو (ستلحق الجميع، ولا مستفيد سوى حفنة من المرتزقة الدخلاء، وربما قادت هذه الفتنة الهوجاء المنطقة بأسرها إلى حرب مذهبية حمقاء). وللتاريخ فلقد كان لبلادنا المملكة العربية السعودية - حفظها الله ورعاها - دور مهم وأساس في إغلاق تلك المسارح المشرعة اليوم، ومنع الراقصين على الدم العربي اللبناني من ممارسة جرمهم الكبير ردحاً من الزمن غير قصير. والأمل اللبناني والعربي والإسلامي ما زال معقوداً بعد الله بقادة بلادنا - وفقهم الله - وهم مَنْ عُرفوا في مثل هذه المواقف الصعبة، وبأمثالهم من العرب العقلاء، لاحتواء الأزمة وإطفاء نار الفتنة؛ حماية للدم، وحرصاً على توحيد الصف الداخلي في لبنان الحبيب من جديد.
حفظ الله بلادنا وبلاد المسلمين من كل سواء، ووقانا جميعاً ويلات الحروب والفتن.. آمين.