أنهى لقاء الخبراء الوطني حول العنف الأسري فعالياته الأسبوع الماضي تحت رعاية الأميرة عادلة بنت عبدالله بن عبدالعزيز.. وكان اللقاء فرصة مناسبة لتبادل الخبرات الوطنية في الوقاية والتصدي لظاهرة العنف الأسري ووضع آليات فعالة لذلك..
واللقاء نظمه برنامج الأمان الأسري الوطني الذي تم إنشاؤه لحماية الأسرة من العنف برئاسة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز.
ومن هذا اللقاء انبثقت العديد من الحوارات والأسئلة والعديد من محاولات الإجابة، ومن ضمن أهم الأسئلة التي يمكن للمتابع طرحها سؤال في غاية الحساسية، وهو: عندما تتعرض امرأة للعنف داخل أسرتها ماذا تفعل لكي توقف هذا الأذى؟ ويقصد بالعنف هنا هو أي اعتداء جسدي كالضرب أو معنوي كالترهيب أو مادي كالاستيلاء على الراتب أو الحرمان من الحقوق كالعضل (المنع من الزواج) أو مصادرة حقوق كالتعليم والعمل.. إلخ.
الإجابة على هذا السؤال قد تبدو سهلة من الناحية النظرية، وهي أن من تتعرض لانتهاك حقوقها يمكنها الذهاب للجهات المختصة ورفع شكوى بذلك، ولكن واقع الحال يشير إلى أن المسألة ليست سهلة، لعدة أسباب، أهمها أننا نشاهد في الأعوام القليلة الماضية تحولات اجتماعية متسارعة وصدور أنظمة متتالية خصوصاً في مجال الحقوق وتطوير القضاء، تجعل كثيراً من الأنظمة الحقوقية غير واضحة وتحتاج للتوعية بها حتى في الجهات الرسمية القائمة على تنفيذ هذه الأنظمة.. والسبب الآخر أن تثبيت الادعاء بالتعرض للعنف من داخل الأسرة ليس بسهولة تثبيته لو كان من خارج الأسرة.
وينتج عن السبب الأول أن الكثير منا قد لا يعرف حقوقه، أو لا يرى جدوى من رفع شكوى لأسباب ذهنية ونفسية أنتجتها الطريقة التقليدية في التعاطي مع مثل هذه القضايا.. ماذا أقصد بالطريقة التقليدية؟ في المجتمع التقليدي السابق كان أغلبنا في أرياف وبوادي وبلدات صغيرة، المشكلات الأسرية فيها أقل تعقيداً، وكانت فيه الأسر متقاربة ومترابطة، وضبطها الاجتماعي يتم عبر الأعراف والقيم التقليدية، وكان المعتدي داخل الأسرة يتم السيطرة عليه من أطراف عديدة داخل المنظومة الاجتماعية التقليدية.. وكان من العيب الفادح مثلاً أن تذهب فتاة لتشتكي على أسرتها خارج هذه المنظومة الأسرية، لأن ذلك يعني تفكك هذه المنظومة وفقاً للمفهوم السابق.
ولكن مع التوسع الهائل للمدن وانعزال الأسر في كيانات صغيرة، أصبح بإمكان المعتدي أن ينفذ عدوانيته بعيداً عن أعين المنظومة الأسرية السابقة التي كانت تحيط بها، فيما ظلت القيم الاجتماعية كما هي، وظل مفهوم العيب من الشكوى الرسمية على نفس الوتيرة السابقة ما قبل توسع المدن.. فالتي تتعرض للأذى من أحد أفراد الأسرة عليها الصبر والمسايسة منتظرة تغير عدوانية المعتدي بأساليب غير مجدية، وفي أفضل الأحوال عليها الشكوى بحضور الولي أو المحرم.. وكثيراً ما يرفض الولي أو المحرم الذهاب معها بسبب مفهوم العيب.وخطورة مفهوم العيب بالمعنى التقليدي أنه منتشر في العقول حتى في كثير من الجهات الرسمية، فقد شهدنا في اللقاء الوطني حول العنف الأسري، أن هناك كثيراً من مديري المراكز الرسمية يستقبلون المشتكية بشروط ترتكز على مفاهيم تقليدية خاطئة وغير نظامية.. مثل ضرورة وجود ولي أو محرم معها.. ومثل أنه من المعيب أن تأتي امرأة وتشتكي على أهلها، ومثل الاعتقاد أن مثل هذه المرأة قد تكون مختلة نفسياً أو عقلياً، أو خارجة على العادات والتقاليد، رغم أن أحد القضاة الأجلاء في اللقاء ذكر بوضوح قطعي أنه ليس هناك أية مادة نظامية أو شرعية تستلزم إحضار الولي، وذكر بوضوح أن أية امرأة تتعرض للعنف يمكنها الحضور للشكوى مباشرة، وأن مسألة الولي والمحرم هدفها هو التعريف بالمرأة فقط.. وأنه في حالات الطوارئ والنجدة ليس هناك شرط حتى للمعرِّف، ويمكن إيواء المتعرضة للأذى في دور رعاية خاصة بذلك.
إذن، مفهوم العيب هنا هو مخالف للتشريعات والأنظمة المعمول بها، وانتشار هذا المفهوم ينبثق عنه مفهوم سلبي وهو أن لا جدوى من الإبلاغ للجهات الرسمية، إذا كان مشروطاً بموافقة الولي الذي قد يكون هو المعتدي! أو إذا كان لا يتم التعامل مع قضية الشكوى بجدية لأنها خارجة على العادات والتقاليد.. وعلى ذلك تنبغي التوعية بكثير من المفاهيم التقليدية المخالفة للأنظمة الحديثة.
وبالعودة للإجابة على السؤال الأساسي فإن التي تتعرض للعنف الأسري يمكنها القيام بالشكوى ولكن عليها إدراك مسألتين قبل ذلك..
أولاً: الخطوة الذهنية النفسية. فعلى التي ترغب في رفع الشكوى أن تدرك في ذهنها وبوضوح أن ذلك حقها الذي تكفله الأنظمة، وأنه لا خطأ في ذلك، بل الخطأ هو في قبول الظلم، وأن لا تتأثر بما قد يقال لها من البعض عن العيب، فالعيب والمخجل هو ما يفعله المعتدي ليس في ما تفعله هي. كما عليها أن لا تتأثر بما قد يشك به البعض بأن سبب العنف عليها هو سلوكها الذي أغرى المعتدي وتحويل الملامة عليها، فذلك كلام لا قيمة له عند الجهات الرسمية، فالقيمة للأدلة والوقائع المثبتة.
ثانياً: الخطوة المعرفية. عليها أن تسأل وتعرف تفاصيل حقوقها وكيف ترفع الشكوى ولمن ترفعها ثم تتابعها، فهناك أنظمة حقوقية متتالية تصدر في هذا الشأن، وقد يكون بعضها بسبب حداثته غير واضح حتى لدى بعض الجهات الرسمية، وهذا سيشكل لها عوائق ستواجهها بعد رفع الشكوى، فلا تتنازل عن حقها بسهولة لمجرد أن مسؤولاً أو مختصاً لم يستوعب الأنظمة بعد، قد وضع لها شروطاً تعجيزية لقبول شكواها أو لإثبات أقوالها.. وعليها أن تعرف أن إثبات ادعاءاتها ليس بالأمر السهل، حتى في أكثر الأنظمة وضوحاً، لكن بالإصرار والمتابعة لن يضيع حقها.. والإصرار هنا هو الروح الأساسية لنجاح قضيتها.
بعد ذلك تقوم برفع الشكوى للجهات الرسمية مثل الشرطة أو القضاء أو الأمارة، عبر بلاغ رسمي أو بالحضور شخصياً أو توكيل محام أو قريب ثقة أو إحدى المختصات الاجتماعيات.. كما تشكلت حديثاً لجان لكل منطقة في المملكة تحت مسمى (لجنة الحماية الاجتماعية) التابعة للإدارة العامة للحماية الاجتماعية، إضافة لبعض الجهات الأخرى التي نشأت مؤخراً مثل برنامج الأمان الأسري والمركز الخيري للإرشاد الاجتماعي والاستشارات الأسرية، وهيئة حقوق الإنسان وغيرها من المؤسسات الأهلية والحقوقية.. وكثير من هذه الجهات تتطور بشكل مستمر سواء عبر أدائها أو عبر أنظمتها.
أخيراً رغم أن غالبية الأسر لا تعاني من حالة العنف إلا أن وجود أقلية يستلزم التحرك، لرفع الظلم عن الضحية أولاً، ولتلافي خطورة الآثار الناجمة عن هذا العنف على المجتمع تالياً.. وهذا يستدعي البلاغ من طرف آخر إذا كانت الضحية في حالة خوف وغير قادرة على التبليغ، فالأنظمة تقبل ذلك وتتكتم على اسم المُبلغ.. وللحديث بقية.
aljebib@yahoo.com