إذن، فخريج الثانوية العامة يواجهُ معضلةً شاقة ذات أطراف عدة:
* أُولاها: معضلةُ التعرُّف على قدراته ومواهبه التي يمكن أن يوظِّفَها لخوْضِ التجربة الجامعية.
* وثانيتُها: معضلةُ اختيار التخصص الذي يمكن أن يرشِّحَه درباً لمشوار الجامعة، والحياة من بعدها.
* وثالثتُها: معضلةُ التوفيق بين رغبتهِ هو من جهة، ورغبةِ والده أو والدتِه أو الاثنين معاً إلى جانب مَنْ قد يهمه أمره، من جهة أخرى.
**
* هناك بالطبع صنفٌ من أولياء الأمور، آباءً وأمهات، إخواناً وأخوات، يقيسون رغبةَ الشاب المقبل على الجامعة بمكيال خاص بهم، معتمدين في ذلك على تصوِّر شخصي لفُرص الفوز والفَشل، والطموح والخمول، وغير ذلك من المعايير السلوكية التي تعرِّفُ في تقديرهم (منظومةَ) الإنسان السويّ.. قد يصرُّ أبٌ على خيار (الطب) خلافاً لرغبة ابنه الذي يفضّل حقلاً من حقول الهندسة أو القانون أو الاقتصاد ونحو ذلك.. وقد يُصِرُّ أبٌ آخر على طرق باب الدراسات الشرعية، في حين يفضِّل الابنُ الدراساتِ النفسية أو الاجتماعية أو الأدبية!
**
* وهكذا يجد الشابُ نفسَه مُحَاصَراً بشبكة من (المستشارين) يزعم كل منهم أنَّ رأيَه يملك ناصيةَ اليقين، وتأخذ الحيْرةُ بالشاب كلَّ مأخذ، فلا يدري مَنْ بيده الرأيُ الفصْلُ، بدْءاً بالأبوين، وانتهاءً بزملاء الدراسة، فإذا حاول اللجوءَ إلى نفسه، وتحكيمها في الأمر، لم يجدْ رصيداً من العلم أو الخبرة يرجِّح عنده الاستقلالَ بالحكم على الموقف بعيداً عن تأثير المحيطين به، وعندئذٍ يلجأُ من جديد إلى طَلب المشورة ممَنْ قد لا يملك خبرة في الأمر يرجح بها حكمهُ، وتستوي بها مشورتُه.
**
* ومن هنا، فإنه إذا كان خريجُ الثانوية العامة لا يملك الحكمَ المنصفَ لنفسه، ولا يجدُ المشورةَ السوية بين أهله وخلّه، فأيْنَ يذهبُ وإلى مَنْ يحتكم؟ ولنا أن نتصورَ حال شاب كهذا ينفق الأيامَ بحثاً عن قرار ينهي حيرته مع نفسه، ويمنحه الخيار المناسب لرغبته وقدراته، ثم يجدُ نفسه في نهاية المطاف مرْغَماً على ترجيح مشورةِ أبٍ أو أخ أو صديق أو زميلِ دراسة.
لا حبّاً فيما أشار به ولكن هَربَاً من معاناة الحيرة وأرق القرار.. ويذهب الشابُ إلى الجامعة طَمعَاً في تخصّص ما، فإن كان له حظ وتقدير يؤهِّله للقبول، صار إلى ما صار إليه، وبدأَ مشوارَ السنوات وهو يغالبُ نفسَه خوفاً من الفشل وشَماتة الوليّ أو الحميم، وقد ينتهي مشْوارهُ الجامعي بنجاح، ثم يعود يسألُ نفسَه من جديد: هل كنتُ على حقٍّ عندما اخترت هذا التخصص أو ذاك؟ أو: هل كنتُ مُنْصِفاً لنفسي صادقاً معها عندما رجَّحتُ مشورةَ زيدٍ أو عمرو من الناس؟!
* وقد يتجه صاحبنا إلى الجامعة بتقدير زهيد، ويطرق أبواب التخصصات المختلفة، فلا يجد مجيباً، وقد تنقذُه شفاعةُ وليّ، أو جاهُ مسئول، فيفوزَ بمقعد في كلية لا رغبةَ له بها، ولا طاقة له معها، لكنه ينتظم بها خوفاً من مظنّة الناس، وتصنيفهم له بين أقرانه وأترابه فيما بعد بأنه (غير جامعي)، ويمضي في الجامعة سنةً أو سنواتٍ لينتهي به الأمرُ بنجاح زهيد التقدير، أو بانسحابٍ في أول المشوار أو في وسطه، ليهيمَ بعد ذلك على وجهه فترةً من الزمن يُمنّي النفسَ بالوظيفة أو بأيّ عملٍ يُنْسيه مرارة الفشَل في الجامعة، فإذا سأله سائلٌ: لِمَ لَمْ تكمل مشوارَك الجامعي؟ أجاب بأن (ظروفاً) شخصية ملحّة أجبرتْه على طلب الوظيفة قبل أوانها، لكنه سيستأنفُ مشْوارَ الجامعة ليلاً أو انتساباً، وقد يسوقُ هذا الكلام جَاداً، وقد يعني به الهروبَ فقط من فضُول الناس وملاحَقتِهم له بالسؤال عن سبب غياب الودِّ بينه وبين الجامعة!
**
*ولستُ في حاجة إلى تذكير القارئ الكريم بمحاور الجدل التي أُثيرت في الماضي دون جدوى حول ضرورة وضع تعريف لحاجة البلاد من مخرجات التعليم العالي، وتحديد أولوياته بما يتلاءم مع حيثيات التنمية الطموحة، فمثلاً: ما مدى حاجتنا إلى التعليم التقني المتخصص مقارنةً بالعلوم النظرية؟ وهل من الحكمة استمرار الجامعات في تبني سياسة قبولٍ أكثرَ انفتَاحاً ومرونةً أمام كل عابر سبيل، لمجرد أنّه يحمل الحدَّ الأدنى من التأهيل لذلك؟
وللحديث صلة.