بُعيد الغزو الأمريكي للعراق، ومع بداية المقاومة العراقية ظهرت بوادر طائفية. خاف المراقبون أن يتحول العراق إلى لبنان؛ فالعراق ككل دول العالم يخزن تناقضات متنوعة اجتماعية طائفية طبقية مذهبية عرقية تنتظر الفرصة لتعبر عن نفسها. لبنان، تشيكو سلوفاكيا، سريلانكا، الصين، أمريكا... إلخ أمثلة صريحة على هذا التخزين. مع بداية الغزو ظهر السيد الجلبي الذي عاد إلى العراق مع طلائع الجيش الأمريكي زعيماً أو هكذا كان يحلم ليقول بكل ثقة إن العراق ليس لبنان. ثم راح يمتدح شعب العراق وحضارة العراق وعراقة العراق... إلخ. لم ننتظر طويلاً حتى فرضت الطائفية نفسها بكل سمومها البغيضة؛ لتصبح واقع العراق. ما كنا خائفين منه أصبح نموذجاً؛ فالناس الآن تتخوف أن يصبح لبنان مثل العراق وليس العكس؛ فبدلاً من الخوف من لبننة العراق أصبحنا الآن نخاف من عرقنة لبنان. الأحداث الأخيرة تشير إلى ذلك. غالباً ما نبسط الأمور ونعيد ما يجري في البلدين إلى التخلف. ننسى في كل تحليل أهم عامل في الاستقرار وهو هيبة الدولة. عند غياب الدولة لا تظهر فقط المخزونات التاريخية، ولكن يتبعها ظهور قوى الإجرام؛ فالدولة ممثلة برموزها الوزارات ورجال الأمن والمخابرات وغيرها من عناصر الدولة هي الضمانة للاستقرار، حتى وإن كانت هذه الدولة شمولية أو طائفية أو عنصرية. إذا غابت رموز الدولة من الواقع تغيب هيبة الدولة من النفوس؛ وبالتالي يصبح القانون الفردي أو العائلي أو الطائفي هو البديل فينشأ التناقض. لا يمكن تفسير ما يحدث في العراق بالتخلف، وإنما بالاحتلال الذي أزال الدولة بقرار غير مسؤول. لو أن ما حدث في العراق حدث في إنجلترا أو فرنسا أو حتى السويد فلن يكون الوضع أفضل منه في العراق وفي لبنان. مشكلة لبنان الأساسية أيضاً مصدرها غياب الدولة المزمن. هذا الغياب بلور الطائفية ثم شكل منها دولاً متعددة في داخل البلاد؛ فحزب الله ما كان يمكن أن يتشكل ويقوى إلا في غياب دولة حقيقية يدين الشعب بكليته لها؛ فالعراق ولبنان لهما شكل الدولة، ولكنهما في الواقع ليسا كذلك. وجود حكومة مركزية تبسط هيبتها على الناس أمر ضروري مهما كان الثمن الذي يجب أن يدفعه المواطن؛ فالولاء لا يعني فقط مبايعة هذا الحاكم أو انتخابه أو الخوف من بطشه، ولكنه أيضاً الشعور بالانتماء المشترك. حكم صدام القاسي كان امتداداً لهيبة الدولة المستقرة. عندما جاء صدام إلى الحكم لم يأت معه بالاستقرار للعراق. صدام جاء إلى دولة مستقرة؛ فالعراق مستقر منذ العهد الملكي. وعندما جاءت الجمهورية بانقلاباتها المتعددة لم تلغ الدولة. أزالت رؤوس النظام فقط, ثم أدخلت ما تراه من تعديلات دون المساس بالدولة ذاتها؛ أي أن الذي تغيَّر هو الحكومة وليس الدولة. هذا ما حدث مع الانقلاب الناصريّ في مصر، والأتاتوركي في تركيا وغيرهما. أما الديموقراطية التي نسمع عنها في لبنان والعراق فليست سوى تمويه.
فاكس 4702164
Yara.bakeet@gmail.com