في تلك الليلة وإلى وقت متأخر منه لم أتمكن من النوم.. أشعر بقلق وضيق وشيء يشدني تجاه والدي.. أريد أن أذهب إليه وأقبل يديه وقدميه، وأمكث عنده طوال اليوم لماذا لم أفعل ذلك من قبل.. آه لا يمكنني الذهاب هو الآن نائم في غرفته.. إذا سأذهب إليه في الصباح الباكر.. لكن عند الفجر.. ويا للفاجعة سمعت من يقول كلمتين غريبتين على سمعي وعقلي وقلبي بل أشعر أنهما متناقضتان (مات والدي).. لا أكاد أستوعب هذا الأمر.. رحماك ربي.. لكن بعد مضي وقت أيقنت أنها الحقيقة المرة.
والدي الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الزايد الأخ الوحيد للشيخ الدكتور عبدالله الزايد مدير الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سابقاً، مكث والدي في خدمة دينه ووطنه أكثر من أربعين سنة في القضاء، استجاب لولي الأمر في الابتعاث للعمل في دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة عمل في المحكمة الشرعية في مدينة خورفكان التابعة لإمارة الشارقة ومكث في الخدمة هناك ما يقارب العشرين سنة، وقد بلغ من حبه لعمله وإخلاصه فيه وحرصه على الكسب الحلال أنه يذهب مبكراً ولا يخرج إلا بانتهاء الدوام، وكان لا يتغيب عن عمله ولا يخرج وقت الدوام مهما كانت الأسباب، ولم يكن يستعمل سيارة العمل لنفسه أو أسرته أو لأعماله الخاصة مهما كانت الظروف.
كان يضرب به المثل رحمه الله في طيبة القلب والسماحة والعفو عمن أخطأ في حقه، كان يصل رحمه ويكره التقاطع ويحب الصلح ويسعى إليه، كان وقافاً عند حدود الله، عف اللسان يكره الغيبة وإذا سمع مثل ذلك قال: (أعرضوا.. أعرضوا) أي اتركوا الغيبة، كان يقرض وينظر المعسر بل كثيراً ما يتنازل عن ماله إذا عرف أن المدين معسراً ولا يستطيع رد الدين، وكان يتجنب الدين وتوفي رحمه الله وليس عليه دين، حرص على تربية أبنائه وبناته على الاستقامة والالتزام بدين الله وحب الصلاة وحسن الخلق وصلة الرحم، كما حرص على تفوقهم الدراسي.
ومن أقرب الأمثلة على ذلك أنه لم يكن يسمح أبداً بشيء اسمه الغياب عن المدرسة ويحرص على قراءة شهاداتنا ومعرفة الدرجات وكان يفرح بتفوقنا ويعطينا مكافأة على ذلك، كان رحمه الله عزيز النفس قوي الصلة بربه فلم يشتك قط من شيء يؤلمه، ورغم طول معاناته في مرضه الأخير فقد كان يتحمل الآلام بنفس صابرة، ولم نكن نعلم بما يؤلمه إلا عندما يطلب منا أن نأتي إليه بحاجة تخفف عنه شدة الألم.
كان والدي رحمه الله ومنذ شبابه حريصاً على أداء الصلوات في أوقاتها جماعة ولا أذكر أن صلاة واحدة فاتته خاصة صلاة الفجر، وبعد تقاعده وتفرغه أصبح مؤذناً لمدة أكثر من سبعة وعشرين عاماً، اعتنى بمسجد الحي الذين نسكن فيه عناية تامة، بل كان ينفق من ماله الخاص ويبذل جهده في أي إصلاحات للمسجد ولم يكن يريد الجزاء إلا من الله، كان رحمه الله حريصاً على أوقات الأذان فيأتي للمسجد قبل موعد الأذان بوقت كاف، أصبح قلبه معلقاً بالمسجد والأذان والصلاة، وما انتهى من صلاة وأتى للبيت وجلس معنا دقائق إلا قام وتوضأ وانتظر الصلاة التي تليها، ومع هذا لم يكن مقصراً في القيام بواجباته تجاه أسرته حتى في مرضه الأخير، فكان رحمه الله يقضي حاجات أسرته ويشرف بنفسه على إصلاح أي عطل بالمنزل، منذ مرضه ضعفت قدرته عن قيادة السيارة وعن المشي إلا بمساعدة ليس لكبر سن وإنما لمرض أصابه رحمه الله، عانى من المتاعب والآلام ما يقارب السنتين إلى أن ضعفت قدرته كثيراً عن الذهاب للمسجد، وكان رحمه الله كثيراً ما يخبرنا أنه رأى في المنام أنه يذهب إلى المسجد ماشياً على قدميه، وما أسف على شيء أسفه على عدم قدرته على ختم القرآن كما كان يفعل في السنوات الماضية، وعمل شتى الوسائل ليتمكن من ذلك فلم يستطع رحمه الله، وكانت أخواتي الكريمات يقرأن عليه من كتاب الله وكثيراً ما كان يصحح لهن القراءة فكنا نستغرب من إتقانه لعلم التجويد وقوة حفظه لآيات القرآن الكريم.
قبيل فجر الجمعة أسلم روحه لبارئها وصلي عليه رحمه الله بعد صلاة الجمعة الموافق للسادس والعشرين من شهر ربيع الآخر لعام تسعة وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة في جامع الراجحي بالرياض، وقدمت جنازته رحمه الله على باقي الجنازات التي معه إكراماً كونه مؤذناً.
اللهم أجعل والدي من أطول الناس أعناقاً يوم القيامة، واجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء، واجعل اللهم روحه في عليين واجعل قبره روضة من رياض الجنة آمين يارب العالمين.
دراسات عليا - جامعة الإمام