* مكثنا سنوات طوال، ونحن ننام ونصحو على قوائم من الممنوعات اللفظية والحركية، وقاية من الوقوع في الإثم والعياذ بالله. قل كذا، ولا تقل كذا. احذر أن تقول كذا، وأن تتلفظ بكذا، ادخل بهذه القدم واخرج بتلك القدم، حتى أصبح هذا شغلنا الشاغل الذي قلل من الجدة في أعمال أخرى متوجبة.
* قبل سبع سنوات تقريباً، وكنا نجهد في مدينتنا السياحية.. (الطائف)، مصيف المملكة الأول كما تحلو لنا التسمية عادة، و(مدينة الورد)، كما أراد وأحب وحبّب في هذا الاسم مؤخراً، أميرنا المحبوب (خالد الفيصل)، وذلك لتنفيذ برامج ترفيهية وتسويقية للسياح الذين ملؤوا الشقق المفروشة، والفنادق الكبيرة والصغيرة أوان ذاك، خصص خطيب جمعة في واحد من جوامع الطائف، حديثه في خطبتي الجمعة، للهجوم على كافة أعضاء اللجنة السياحية في المحافظة، متهماً كل عضو فيها، بإفساد المجتمع المسلم، وإلهاء الشباب والعائلات في الحدائق والمتنزهات والأسواق العامة، وفي الدورات الرياضية، عن ذكر الله والصلاة، وعن حفظ القرآن،.. إلى غير ذلك. حتى لم يُبق اختياراً غير آثم لأهل الطائف ولزوارها من السياح، سوى دخول المساجد، وحلق التحفيظ، والمخيمات الدعوية النافعة على حد قوله، ولم ينس أن يذكر أن لفظ السياحة في حد ذاته، بضاعة مستوردة من بلاد تبيح الفسق على أنواعه في مجتمعاتها. وليته لم ينس نظارته التي يلبسها وهو يقرأ خطبته العصماء، والمايكرفون الذي يهاجمنا من خلاله، والسيارة التي سوف يستقلها إلى داره العامرة بعد خطبته الرنانة، فهذه كلها من ديار الفسق كما يقول..!
* السياحة.. واحد من تلك المصطلحات التي ظلت مقزّمة في ثقافتنا إلى عهد قريب، وكنا نلجأ إلى مصطلح آخر يقوم مقامه هو (الاصطياف)، تحرجاً من الوقوع في شبهة لفظية، وتحاشياً من الانزلاق في وحل مأثوم.
* الوطن - وما أدراك ما الوطن - لفظ آخر تقزّم وتأزم غصباً عنه، فقد حورته منابر الصحوة، وحولته أدبياتها، إلى كائن شائن اسمه (الوثن). فحتى لا يكون الوطن منافساً لأممية الإسلام التي ظل مشروع الصحوة يجهد ويجاهد من أجل ترسيخها في الذهنية السعودية بشكل خاص طيلة ثلاثة عقود مضت، لم يكن أمام هذه الحركة العجيبة، أي لفظ مضاد للوطن مثل الوثن..!
* الفن هو الآخر - كمصطلح - ظل طيلة سنوات طوال خلت، وهو لفظ ملتبس في جانب محدد من الذهنية السعودية. بل هو من ضمن مصطلحات لحقها شيء غير قليل من التأثيم والتجريم والتحريم، حتى تعدى الأمر إلى أعيان الفن أنفسهم.
* الفن بعمومه دون تخصيص، ظل هدفاً سهلاً لرموز الصحوة، وأهل الفن بعمومهم كذلك، هوجموا وجرموا ووضعوا في صف واحد مع غير المناصرين لحزب الصحوة. كل من وقف خارج دائرة هذا الحزب، أصبح عدواً للدين وأهل الدين، وحتى تسهل عملية إقصائه وإزاحته من طريق أسلمة المجتمع الجاهلي - على حد قولهم الذي هو قول سيد قطب في الأساس - تُخصِّص له الصحوة المباركة، (وصمة) أو (وسمة)، على طريقة وسم الإبل عند أهلها في مفازات الجزيرة العربية، فهناك علماني، وآخر حداثي، وهناك زنادقة وفسقة، ثم عملاء وزوار سفارات.. وهلم جرا.. حتى أصبحت الحرب على غير الموالين للصحوة، أمراً في غاية البساطة، ومركباً سهلاً لكل من هب ودب.
* أهل الفن.. من كتاب أغنية، ومن ملحنين ومغنين ومطربين وموسيقيين، وحتى رسامين وممثلين وغيرهم، نالوا حظهم الأوفر من سهام الصحوة. بل إنهم أوذوا وحوصروا وضُيِّق عليهم في مؤسسات رسمية مثل جمعيات الثقافة والفنون، التي لم تُفتح إلا من أجلهم، ومع ذلك ظلوا متماسكين متعاونين، بل تضاعفت جهودهم، وتعاظم إنتاجهم، وكثر بروزهم وحضورهم على منابر خليجية وعربية، ونالوا أعلى الأوسمة والشهادات، وكأنهم كانوا في حاجة لمثل هذه الحرب الصحوية، حتى يصحوا أكثر من ذي قبل.
* تابعت بكل جد واهتمام، ندوة (الأدب والفن في خدمة الدعوة)، التي نظمتها (الندوة العالمية للشباب الإسلامي) قبل أسابيع في العاصمة الرياض. الأمر المدهش بالنسبة لي هنا، ليس في تطور مفهوم الفن عند مؤسسة إسلامية كانت بالأمس مثل مثيلاتها ضد الفن ابتداءً، ولا في التعاطي المفاجئ، من رموز دينية مشهورة معروفة، مع مفهوم الفن وغاياته، ولكن في التعاطي الثقافي مع هذا التطور الذي حدث. لماذا صمتت تلك الأقلام التي كانت تؤاخذ من هم ضد الفن بصفة عامة..؟ ولماذا لم يحتف أهل الفن أنفسهم بهذا الموقف الإيجابي، الذي أبدته قيادات في مؤسسات شورية ودينية، مثل وزير الشؤون الإسلامية الدكتور صالح آل الشيخ، وكذلك رئيس مجلس الشورى الدكتور صالح بن حميد، وغيرهما على سبيل المثال، فهم قالوا كلاماً مغايراً للفهم السابق في المدرسة المتشددة في أكثر من مؤسسة دينية، بل اعتبروا الفن وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله، وهذا موقف غير مسبوق، وفيه دلالات واضحة على مغايرة إيجابية لما هو سائد من ثقافة تؤاخذ الفنون جميعها، بجريرة الفن الهابط، الذي يرفضه أهل الفن الأصيل أنفسهم، سواء كان غناءً أو رسماً أو تمثيلاً أو غيره.
* من كلام وزير الشؤون الإسلامية في هذه الندوة، وهو يتحدث عن الفن، وعن الجمود والخوف من كل جديد في هذا الكون، صحيفة الحياة 28 - 3 - 2008م: (ليس ديدن العلماء الهروب مع كل تحد حديث، إلى ما ألفوه، فالوسائل منها ما هو واضح الجواز، وما هو ظاهر الحرمة، وما بين ذلك من مضاييق يمكن للعلماء أن يحسموا رأيهم في ما يؤخذ منها وما يرد).
* ومن كلام رئيس مجلس الشورى قوله في المصدر أعلاه، وهو موقف يجسد الواقعية والفهم الصحيح في الحياة: (الفن هو الشعور بالجمال، والتعبير عنه... إن النصوص الشرعية قرآناً وسنة، تنبه العقول والقلوب إلى الجمال في الكون، وفي الناس وفي النفس، وفي السماء والأرض والبحار والجبال والأنعام... إن رفع الإسلام من شأن الفن والجمال، بلغ ذروته حينما طاول أقدس نص لدى المسلمين وهو القرآن، إذ رغّبت التوجيهات الشرعية في الترتيل وحسن الأداء وجمال الصوت والتغني بالقرآن وبالأذان، حتى قال نبينا محمد صلوات الله عليه وآله وصحبه وسلم لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهو يستمع لجمال صوته استماع المعجب والمشجع: لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود).
* الفن إذن، ومن بوابة مؤسسة دينية هي (ندوة الشباب الإسلامي)، يعبر أخيراً لغم (العفن)، الذي زرعته الصحوة ذات يوم في طريق المبدعين والمبدعات من أبناء وبنات هذه البلاد. اللغم لم يكن يعني شيئاً لأهل الفن الأصيل، لأنهم يعرفون أنفسهم، ويثقون في قدراتهم، ويجدون من يحترم ويُقدِّر عطاءاتهم على أعلى المستويات، ولكنه ظل واحداً من محاور الحرب على الآخر، التي تفننت فيها الصحوة، وصدقت نفسها حين ظنت، أنها بذلك تطرح فكراً وثقافة بديلة، وأنها تؤسلم مجتمعاً جاهلياً في زعمها، وأنها تسير على طريق الخلافة. الحلم الذي هوى في ظلماته أسامة بن لادن والظواهري في آخر المطاف.
* الفن إذن، يمكن أن يكون أداة من أدوات الدعوة إلى الله في هذا الكون، وهو (شأن إسلامي)، وليس عفناً كما قال بذلك بعض الناس ذات يوم..!!
assahm@maktoob.com