كنت سأواصل الحديث عما رأيت وما حدث لي في رحاب المغرب الجميلة. غير أن انطلاق الندوة عن الملك فيصل - رحمه الله - مساء غد أوحى لي أن أتوقف عن مواصلة ذلك الحديث لأبوح بشيء قليل عما بدا لي من مواقفه المشرفة؛ |
وبخاصة ما يتعلق بقضية فلسطين، التي هي أم قضايا العرب والمسلمين. |
لقد ظهرت ملامح العبقرية في شخصية الملك فيصل منذ أن كان صبيا. لذلك اختاره والده العظيم، باني وحدة هذا الوطن العزيز وواضع أسس نهضته الحضارية، الذي شهدت كل تصرفاته على عظمة فراسته، ليقوم - وهو في العقد الثاني من عمره - بمهمات لا تعهد إلا إلى الأكفاء من الرجال. اختاره ليمثله في تهنئة ملك بريطانيا على توليه عرش بلاده يوم كانت تلك البلاد إمبراطورية عظمى. وكان ما ظهر من تصرفاته في عاصمة تلك الإمبراطورية برهانا على عبقريته. ثم اختاره والده مبعوثا له إلى دول أوروبية؛ وهو في الرابعة عشرة من عمره، فقام بما عهد إليه من مهمات خير قيام. على أن أعظم ما اختير لقيامه به إرساله قائدا لقوات انطلقت من الرياض لإخماد تمرد حدث في منطقة عسير؛ وهو لما يكمل السادسة عشرة من عمره بعد. فكان أن نجح في إخماد ذلك التمرد، وعاد إلى عاصمة الوطن منتصرا. |
ولعل تلك النجاحات المتوالية - والفيصل في العقد الثاني من عمره - كانت من بين عوامل أخرى جعلت والده العظيم يختاره - وهو في العشرين من العمر - نائبا له في الحجاز. وعندما أنشئت وزارة الخارجية - وهو في الرابعة والعشرين من عمره - أسندت إليه، وظل يتولاها - إضافة إلى مهماته الأخرى الكبيرة - حتى وفاته باستثناء فترات قصيرة جدا كانت لها ظروفها الخاصة. لذلك يمكن أن يعد أبا الدبلوماسية الوطنية السعودية. |
وكنت عبرت عن حبي للوطن العزيز، و افتخاري بالانتماء إليه، في قصائد بينها تلك التي قلتها قبل ثماني سنوات في احتفال منح جائزة الملك فيصل العالمية متزامنا مع اكتمال بناء الفيصلية الشامخ، ومطلعها: |
خطرت فقبِّل ثغرها المتبسِّما |
وارسم لعينيها الكلام منمنما |
لا تكتم الحب الذي أدمنته |
حبٌ كحبِّك هل له أن يكتما؟ |
|
ومليكة القلب الولوع مليحة |
ما طوقت خصرا ولا رُشفت لمى |
عذريةٌ حلل الطهارة ثوبها |
ما أروع الثوب النقيَّ وأعظما! |
وطنٌ تضم المسجدين رحابه |
أرأيت أطهر من ثراه وأكرما؟ |
وعلى الشريعة أسست أحكامه |
غرَّاء أنزلها الإله وأحكما |
ومظاهر الإنجاز أصدق شاهد |
عما بناه حضارة وتقدُّما |
وأنا الذي أرواه فيض نمائه |
وزها بما قد شيد فخرا وانتما |
ومنها واصفا أبناء الفيصل الذين أشادوا مؤسسته الخيرية الرائدة في طبيعة الخدمات النافعة التي تقدمها: |
أحفاد من أبلى ووحَّد وابتنى |
مجداً صداه يرن في كبد السما |
عبد العزيز من استظل بحزمه |
آتٍ هنا نحو العتيق وأحرما |
وبنو الذي حذق السياسة حنكة |
وبفنها كان الخبير الملهما |
لم تثنه الأحداث عن تصميمه |
يوما ولم يألف عسى أو ربما |
وكل من تأمل تاريخ الملك فيصل؛ ولا سيما في سياسته الخارجية، يدرك أن ما وصف به في البيتين السابقين منطبق تمام الانطباق مع الحقيقة. والحديث، هنا، أو البوح، ليس تناولا لكيفية إدارته دفة سفينة السياسة الخارجية للمملكة في جميع الاتجاهات والقضايا. بل هو محصور بالإشارة إلى موقفه مدافعا عن قضية فلسطين. |
من المسلم به أن الفضل الأكبر يعود إلى الملك عبد العزيز - رحمه الله - في اتخاذ الموقف المشرف الداعم للشعب الفلسطيني وقضيته ضد الصهاينة قبل قيام كيانهم على أرض فلسطين وبعده. وكان جوهر ذلك الموقف رفض تقسيم فلسطين، ورفض الاعتراف بشرعية الوجود الصهيوني على ترابها الطاهر. |
لكن دور ابنه الفيصل؛ بصفته وزيرا للخارجية، كان دورا واضحا عظيما؛ بلورة لذلك الموقف المشرف وإيضاحا له في المحافل الدولية. وما كانت سياسة الوطن العزيز في عهد الملك سعود - رحمه الله - إلا امتدادا وتأكيدا لسياسة والده العظيم تجاه القضية الفلسطينية. وما كان دور أخيه الفيصل؛ وزيرا للخارجية؛ إضافة إلى كونه رئيسا لمجلس الوزراء أو نائبا للملك أحيانا، إلا استمرارا وترسيخا للسياسة المشرفة تجاه قضية الأمة الكبرى بخاصة وقضاياها الأخرى بعامة. |
وفي عهد الفيصل؛ ملكا للبلاد ورئيسا لمجلس الوزراء ووزيرا للخارجية، مرت القضية الفلسطينية بأحداث جسام. وهل كانت أحداث تلك القضية كلها إلا أحداثا جساما؟ في طليعة تلك الأحداث حرب 1967م، التي نتج عنها احتلال الصهاينة لما لم يسبق أن احتلوه من أرض فلسطين بحيث أصبحت كلها تحت سيطرتهم. وكانت تلك الحرب الكارثية قد نزلت بالأمة العربية والوضع بين قطبين من أقطابها: المملكة العربية السعودية ومصر، في حالة يرثي لها المخلصون من أبنائها. لكن عظمة الفيصل ظهرت في تساميه إلى اتخاذ الموقف اللائق به وبأمثاله. عندما اجتمع بالرئيس الفرنسي، الجنرال ديغول، قال له الرئيس: إن إسرائيل أصبحت واقعا، والأجدر بكم أن تعترفوا بهذا الواقع. وكانت إجابة الملك فيصل - رحمه الله - موفقة كل التوفيق ومقنعة غاية الإقناع. فقد قال له: يا فخامة الرئيس لو أنكم قبلتم بالأمر الواقع لظلت فرنسا تحت الحكم النازي. وكان الموقف الذي اتخذه الرئيس ديغول فيما بعد من الاحتلال الصهيوني؛ وبخاصة ما احتله الصهاينة عام 1967م، من الأمور التي أدت - في نظر كاتب هذه السطور - إلى اضطراره إلى التخلي عن الحكم. على أن حيز المقالة لا يسمح بإيراد الدور الصهيوني في هذا الأمر. |
وما دام موقف المملكة - زادها الله توفيقا - من قضية فلسطين هو ذلك الموقف المشرف الرافض للاعتراف بشرعية الدولة الصهيونية على التراب الفلسطيني فإنه لم يكن غريبا أن ترفض - بقيادة الفيصل - قرار 242، الذي من بين بنوده الاعتراف بشرعية تلك الدولة. ولما عقد مؤتمر القمة في الخرطوم كان للملك فيصل الدور الأكبر فيما توصل إليه من قرارات في طليعتها اللاءات الثلاثة المشهورة: لا اعترف بشرعية دولة إسرائيل، ولا سلام ولا مفاوضات معها. ومنها دعم الجبهتين الشرقية والجنوبية؛ تسليحا وتمويلا، للصمود أمام العدو الصهيوني. |
ومن المعروف جدا دور الملك فيصل العظيم في إقناع كثير من الدول الإسلامية بالذات في قطع علاقاتها مع الكيان الصهيوني، وفي توصل الأمم المتحدة - فيما بعد - إلى اتخاذ قرار ينص على أن الصهيونية نوع من العنصرية. أما دور المملكة، بقيادته، في حرب 1973م فلا يظن كاتب هذه السطور أن أحدا من المتابعين لأحداث المنطقة يجهله. على أن ذلك القائد الكبير بدا في السنوات الأخيرة من عمره وكأنه أصبح يشعر بأن استعادة القدس من براثن الصهاينة أولوية من الأولويات التي نذر نفسه لتحقيقها. ومن يقرأ مذكرات كيسنجر، وزير خارجية أمريكا حينذاك، يدرك ذلك غاية الإدراك. فمما ذكره ذلك الصهيوني أنه كان إذا أتيحت له فرصة الاجتماع بالملك فيصل راح يحدثه عما يمكن أن تقدمه دولته مساعدة للمملكة في تطوير بنيتها الأساسية، وأنه كان يستمر في الحديث والملك منصت إليه. فإذا انتهى من حديثه قال له: وماذا عن القدس؟ فلا يجد ذلك الوزير ما يجيب به. وختام المقالة باختصار: أن وفاة الملك فيصل - رحمه الله - كانت خسارة كبرى لقضية فلسطين ومكسبا عظيما للصهاينة والمتصهينين. |
|