نجحت الديمقراطية كمفهوم، ولكنها فشلت كممارسة على أرض الواقع. إن المتأمل لمشاكل العالم من حولنا يدرك أن الوصول للديمقراطية - كما يراها ويسوق لها الغرب - يتطلب تضحيات كثيرة تصل في أحوال كثيرة إلى سفك الدماء البريئة، ومصادرة الحقوق، وهنا تكمن المفارقة البشرية العجيبة: ديمقراطية وقودها دماء بشرية بريئة.
ويحمل التاريخ البشري نماذج عديدة حول كيف يمكن أن تتحول الديمقراطية إلى وحش كاسر يدمر كل من يقف في طريقه لتحقيق أهداف دنيوية بمحركات شخصية أو أيدلوجية أو أممية تستخدم مسمى الديمقراطية كغطاء لهذه الأهداف القاتلة.
وبينما نحن نتابع مجريات الانتخابات الأمريكية التي تسير وفق النموذج الديمقراطي الأمريكي، تذكرت قصة الكاتب الأمريكي الشهير إدغار آلن بو Edgar Allen Poe، الذي ذهب ضحية هذه الديمقراطية بطريقة تراجيدية. وقبل الحديث عن الطريقة التي قتلت بها الديمقراطية الأمريكية كاتبها العظيم إدغار آلن بو، أقدم لمحة بسيطة عن هذا الكاتب، وأبرز ما كتبه في حياته الأدبية. يعتبر إدغار المولود في مدينة بوسطن عام 1809م أحد أهم الشعراء وكتاب القصة القصيرة في تاريخ الأدب الأمريكي، وهو مبتكر قصص التحري Detective stories، وتميزت كتاباته الأدبية بتركيزها العميق على النفس البشرية غير السوية وتصويرها على نحو يثير الرعب والهلع عند الفراء. ومن أبرز أعماله: الغراب the Raven وسقوط منزل أشر The fall of the house of usher. عاش إدغار حياة مأساوية لم تخلو طريقة وفاته منها. فبينما كان إدغار في طريقه إلى مدينة فيلادلفيا لاستلام مبلغ مالي زهيد، توقف في مدينة بالتيمور، وهناك حدثت مأساة إدغار الشهيرة. اختلفت الروايات بخصوص السبب في وفاة إدغار، فمنها من عزا وفاته إلى إدمانه الكحول والمخدرات، ومنها من ذكر أنه تعرض لمرض قاتل أدى لوفاته. ولكن الرواية الأكثر قبولاً وتداولاً هي أنه تعرض للخطف من قبل مجموعة من المؤيدين لأحد المرشحين في الانتخابات، وتم سقيه الخمر حتى الثمالة، وبعد ذلك تم أخذ صوته في أكثر من قاعة اقتراع قبل أن يتلقى ضربا مبرحا ليفقد وعيه ويرمى به بجوار إحدى قاعات الاقتراع. بعد أيام معدودة في المستشفى، مات إدغار وعمره 40 سنة، وبموته اختفت الوثائق التي حددت سبب وفاته. تعتبر هذه الرواية - كما أسلفت - هي الأكثر تأكيداً، وهي موجودة في الفيلم الوثائقي عن سيرة إدغار في مكتبة توماس غرين بمدينة كوينزي في ولاية ماساشوتس، وهي نفس النهاية المكتوبة للفيلم السينمائي: (موت بو) (The death of Poe). ولعل ما يؤكد صدق هذه الرواية هو شيوع عملية خطف الأشخاص في تلك الحقبة الزمنية من التاريخ الأمريكي (القرن التاسع عشر ميلادي)، وإجبارهم على التصويت لأحد المرشحين في الانتخابات الأمريكية المحلية، وتعرف هذه العملية في اللغة الإنجليزية بCooping. إن وجود إدغار مضروباً حتى الموت أمام قاعة الاقتراع، وبلباس غير الذي شوهد عليه أثناء وجوده على القطار جعل النقاد ينتهون إلى القول إنه فعلاً تعرض لعملية خطف من قبل عصابة تبيع الأصوات للمرشحين في الانتخابات الأمريكية في تلك الحقبة الزمنية.
ولكن، هل كان إدغار آلن بو أول وآخر ضحايا الديمقراطية الغربية؟ الإجابة بالتأكيد (لا). شهد العالم مع مطلع القرن الواحد العشرين أنموذجا حيا وقف أمامه العالم بأسره مشدوها حول كيفية إمكانية تحول الديمقراطية الغربية إلى وحش قاتل يرفض سماع المنطق والأصوات الرافضة للدمار والقتل. هذا النموذج هو العراق. لقد تعالت الأصوات العاقلة في الغرب والشرق وعلى رأسها الأمم المتحدة بعدم استخدام القوة ضد العراق بحجج تبين في نهاية المطاف أنها مجرد وقود لديمقراطية زائفة. لقد كلف هذا العراق إزهاق أرواح بريئة تجاوزت مئات الآلاف وخلفت الملايين من العراقيين المشردين داخل وخارج بلادهم وحال لسانهم يقول: أهكذا تكون الديمقراطية الغربية؟! يبدو أن الغرب لا يبالي كثيراً في أن تباد أمم وشعوب لتحقيق ما يرون أنه (ديمقراطي). لقد قدمت الديمقراطية الغربية دليلاً قاطعاً على تعطشها للدماء البشرية التي ما زالت تنزف في العراق حتى غطت في عظيم فعلها وشناعة مقصدها على أحبار الكتب والمخطوطات التي انسكبت في نهري دجلة والفرات إبان غزو التتار للعراق العظيم في القرن السابع الهجري سنة 603 هـ. إن رفض حاملي لواء الديمقراطية الغربية للمناهضين داخل معاقل بلاد الديمقراطية وخارجها لهذه الحرب قبل وبعد وقوعها لهو دليل قاطع على أن مفهوم الديمقراطية يمكن تسخيره لغايات غير ديمقراطية على الإطلاق.
ومشكلة الديمقراطية الغربية - في رأيي الشخصي - هي أنها لا تتسع إلا للفكر والفعل الغربي ومن يسير وفق منهجه من المستغربين. ومن الأمثلة الحية التي تؤيد هذا الاعتقاد تبنيها الدفاع عن حقوق المرأة في البلاد الإسلامية لتسير على النموذج الغربي دون أدنى اعتبار لثقافات وتقاليد هذه البلاد التي ترفض تحول المرأة العربية والمسلمة إلى النموذج الغربي الذي بدوره حول المرأة الغربية إلى منتج استهلاكي. ومن النماذج الأخرى على عدم حيادية الديمقراطية الغربية وتقبلها واحترامها لمعتقدات الشعوب الأخرى هو توفير الدعم والتأييد لمن يشكك في الإسلام ومبادئه. لقد وفرت هذه الديمقراطية الحماية لسلمان رشدي وابن وراق وغيرهما في حربهم الفكرية ضد الإسلام والمسلمين. ومن الأمثلة الأخرى على إمكانية تحول الديمقراطية الغربية إلى أيدلوجية بغيضة هو تعرض المرأة المسلمة للملاحقة والطرد بسبب حجابها ونقابها في بلدان ترفع شعار الديمقراطية. ومن غرائب الأمور هو أن تسمح بعض البلدان المنادية بالديمقراطية للنساء بالتفسخ والانحلال وعدم احترام الذوق العام بالظهور بأجساد شبه عارية، وتمنع وتطرد في الوقت نفسه المرأة المسلمة المحافظة على حشمتها من التواجد في أماكن يفترض أنها راعية للأخلاق والمبادئ مثل المدارس وأماكن العمل. كذلك قام من يؤمن بهذه الديمقراطية الغربية وفي بلدان تحمل شعارها برسم الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وتصوير فيلم يسيء للدين الإسلامي دون أدنى شعور بالمسؤولية نحو أكثر من مليار مسلم! ليس هذا مستغربا على هذه الديمقراطية الغربية التي ترفض مجرد التشكيك في المحرقة اليهودية وتتوعد من يفعل ذلك بالملاحقة والعقاب وتسميته بمعادي للسامية، في الوقت الذي ترى هذه الديمقراطية أن في حصار غزة وقطع الإمدادات الحيوية عنها وقتل أطفالها ونسائها وشيوخها حقاً مشروعاً للدولة العبرية! إن هذه الازدواجية في تطبيق مفهوم الديمقراطية الغربية قد زادت من رقعة التنافر والتباعد بين العالم الإسلامي والغرب.
ومن هنا يمكن استنتاج أن الديمقراطية لا تختلف كثيرا عن مفهوم الإرهاب، على الأقل جزئياً من الناحية التطبيقية. فالديمقراطية الغربية - كممارسة في بلدان غير بلدانها - لا تبالي كثيراً بعدد الضحايا الأبرياء الذين يفقدون حياتهم ثمنا لمغامرات مسوقيها، وهو ما نراه في منهج الإرهابيين الذين يسوقون لأفكار يكون ثمنها أرواح بريئة. فكلاهما يستخدم مفهوم: الغاية (المصلحة) تبرر الوسيلة. تصبح الديمقراطية إرهاباً واضحاً عندما تتحول إلى مطرقة على رؤوس الشعوب المغلوبة على أمرها، ويظل الإرهاب إرهاباً مهما كانت مطيته.
يرفض الإسلام قتل النفس بغير حق واستخدامه كتبرير، وتوعد من يفعله بالعذاب العظيم والخلود في نار جهنم. يقول تعالي: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، سورة النساء (93). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه الترمذي: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم). إن دماء مئات الآلاف من الأبرياء الذين قتلوا باسم الديمقراطية والإرهاب لن تمر دون عقاب إلهي، وهنا يكمن العدل الإلهي المنزه عن الإسفاف البشري. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يجيء المقتول متعلقاً بالقاتل تشجب أوداجه دماً فيقول: يا رب سل هذا فيم قتلني؟).
ومن خلال ما تقدم يتضح للعاقل أن الديمقراطية الغربية لا ترقى أبدا في محفزاتها البشرية ولا في مصدرها إلى رسالة الإسلام العظيمة الخالدة التي بهرت العقلاء من الغربيين من أمثال الأديب المسرحي بيرنارد شو Bernard Shaw والفيلسوف المصلح ألكسندر بوب Alexander Pope والمؤرخة المحايدة كيرين أرمسترونج Karen Armstrong وغيرهم كثير. لعل من الأسباب الكثيرة التي جعلت هؤلاء المنصفين وغيرهم يعتقدون بعدل الإسلام وسمو رسالته الموجهة للبشرية كافة هو ما كان عليه الإسلام في حملاته العسكرية الإنسانية، والذي كان يتفادى القتال الذي لم يكن هدفه، بل كان هدفه نشر الإسلام دون إراقة للدماء وفناء الدواب والشجر. كان قادة الحملات الإسلامية يمتنعون عن قتل النساء والشيوخ والأطفال وقطع الشجر وما إلى ذلك، عملاً بالرسالة الإسلامية العظيمة. يبدو هذا جلياً في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لقادة الحملات الإسلامية والجنود: (انطلقوا باسم الله وعلى ملة رسول الله, ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا, وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين). إن في التاريخ الإسلامي نماذج عديدة تعكس ديمقراطية الإسلام العظيمة في السلم والحرب. من بين هذه النماذج التي تغنى بها الغرب قبل الشرق ما قام به القائد الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي عند فتحه القدس نحو ما ارتكبه الصليبيون من جرائم عندما سقطت القدس في أيديهم في أواخر شعبان من سنة 492هـ. يقول ابن الأثير في كتابه (الكامل): (... وركب الناس السيف, ولبث الفرنج في البلدة أسبوعا, يقتلون فيه المسلمين, وقتلوا في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفًا, منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبّادهم...). لم يقابل صلاح الدين الأيوبي هذه الأفعال الصليبية الإجرامية بالمثل، بل وفر لهم الأمان عند خروجهم من القدس واستسلامهم واهتم بالنساء والأطفال والشيوخ لدرجة أنه أرسل معهم قوة إسلامية تحميهم من قطاع الطرق. إن فعل صلاح الدين الأيوبي ليس جديدا، بل هو امتداد لفعل خير وسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم حينما فتح مكة، وقال لكفارها وهم تحت قبضته: (اذهبوا فأنتم الطلقاء). لم يتمكن الانتقام من الرسول صلى الله عليه وسلم ويقضي على كفار قريش الذين آذوه وأصحابه. عندما نقارن هذا الفعل الإنساني بردة فعل الديمقراطية الغربية الحديثة التي أعقب الهجوم الإرهابي في نيويورك نجد أنه لا يرقى إلى صفة التسامح وضبط النفس التي كان عليها الإسلام وقادته. لقد تصدعت العديد من القيم البشرية بعد قيام الديمقراطية الغربية الحديثة بانتقام أعمى لضحايا عمل إرهابي منفرد من جماعة لا تمثل الفكر الإسلامي المتسامح، وهو ما أفضى بدوره إلى قتل مئات الآلاف من البشر الأبرياء، وأدى إلى فجوة عميقة بين العالم الإسلامي والحضارة الغربية من الصعوبة بمكان ردمها. في الواقع، يذكرني انتقام الديمقراطية الحديثة بقصة النملة وأحد أنبياء الله. ففي رواية عند مسلم عن أبي هريرة:
(إن نملة قرصت نبياً من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح). إن مقتضى العدل والإنصاف أن لا يؤخذ البريء بجريرة المسيء. لا يبدو - بالنسبة لي - أن العدل والإنصاف من المبادئ التي تحرص عليها الديمقراطية الغربية الحديثة، ولو كانت كذلك لتغير وجه العالم للأفضل وما شهدنا المجازر البشرية شبه اليومية!
والسؤال الأكثر إلحاحا الآن هو: إلى أين ستقودنا الديمقراطية الغربية؟ أترك الإجابة عن هذا السؤال للتاريخ، وهو كفيل بها.
* أستاذ اللسانيات النفسية والتطبيقية المساعد
alhuqbani@yahoo.com