بالرغم من أن الهدف واحد في التأمين الصحي (وتأميم الخدمات الصحية) إلا أن الأسلوب والطريقة والتطبيق مختلفة بينهما، وربما يختلف المردود اختلافاً بيّناً نتيجة لذلك.
وكما بُحث في الجزء الأول نظرية التأمين الصحي بأشكاله المختلفة وطرق تطبيقها، بقي أن أبحث اليوم وبصورة موجزة نظرية تأميم الصحة أو الطب وكيفية تطبيقها:
2- تأميم الخدمات الصحية: بعد الحرب العالمية الثانية (1939م - 1945م) تخلى كثير من الدول الأوروبية عن نظام التأمين الصحي فيما بعد، ولعل أحد أهم هذه الأسباب هو الاستجابة لمنظمة العمل الدولية التي أُنشئت في أواخر العقد العشرين، والتي دعت إلى ما يسمى الخدمات الصحية الوطنية (NHS)، حيث يصبح تقديم العناية الطبية لجميع أفراد المجتمع من مهام الحكومات باعتبار أنها من الخدمات العامة الضرورية، ويُنظر إليها على أنها نوع من أنواع التأمين الصحي. وهذا النوع من التأمين موجود في عدة دول مثل بريطانيا ونيوزلندا وأستراليا وهولندا والسويد والنرويج وباقي الدول الاسكندنافية، ويُعرف بشكل مبسط بأن تُجنِّد الدولة جميع الإمكانيات البشرية بالقطاع الصحي (الإدارية والفنية والمساعدة) لهذا العمل الضخم من أطباء عاميين وأخصائيين واستشاريين وتمريض وخدمات طبية مساندة بأنواعها؛ لتفتح المرافق الصحية (مراكز ومستوصفات ومستشفيات) وجميع الخدمات الصحية لجميع المواطنين والمقيمين مقابل أن يدفع المواطن أو المقيم جزءاً بسيطاً من إيراده الشهري أو على شكل ضرائب كما في بعض الدول الغربية ليحصل على هذه الخدمات اللامحدودة، وقد لا تعفيه الدولة من كل المصاريف العلاجية كما هو الحال في بعض الدول كبريطانيا مثلاً؛ فإن تكاليف طقم الأسنان يكون على حساب المواطن.
وفي بعض الدول مثل السويد تتكفل الدولة بعلاج المتقاعدين والمسنين مجاناً كلمسة وفاء؛ حيث يفترض بأنهم دفعوا هذه الضريبة طيلة فترة حياتهم العملية السابقة، وهناك برامج مماثلة لها في دول أخرى تُشعر هؤلاء الناس بأنهم في محل الاهتمام والرعاية كنوع من التقدير لما بذله هؤلاء في خدمة بلدانهم ومجتمعاتهم. وهناك عدة دول تعمل بتأميم الخدمات الصحية تحت نظام يسمى (الخدمات الصحية الوطنية) (NHS)، وتخلت عن فكرة التأمين الصحي التجاري لعدة أسباب، لعل منها - حقيقة - هو أن علاج الأمراض ورفع المستوى الصحي في الغالب ليسا سلعة كمالية لا يطلبها إلا الأغنياء؛ فالمرض يصيب الجميع، بل إنه أكثر حدوثاً في حالة الفقر بسبب سوء التغذية وسوء الظروف المعيشية والجهل.. إلخ. فإذا لم يستطع فرد أو أسرة تحمل أقساط التأمين بسبب الفقر أو البطالة أو لأي سبب آخر فإن حياتهم تكون عرضة لمختلف المشاكل الصحية وغيرها، بغض النظر عن توافر الخدمات الطبية في المجتمع، وبغض النظر عن حجم الموارد الاقتصادية في القطاع الصحي، بل إنهم يكونون مصدر خطر على المجتمع ككل. وهذا بالضبط هو حال أكثر من 40 مليوناً من الأمريكان اليوم، تتراوح أعمارهم من 18 سنة إلى 24 سنة، يعيشون بدون غطاء صحي، عطفاً على أن الولايات المتحدة الأمريكية من الدول التي تمسكت بنظام التأمين الصحي التجاري حتى أصبحت رائدة في هذا المجال. ومهما زادت الموارد والتقنية والاختراعات ورؤوس الأموال في القطاع الصحي فإنه لا يكاد يصل منها شيء إلى هذا العدد الهائل من الأمريكان الذين هم أفقر من أن يحصلوا على تأمين صحي معتبر لأنفسهم، وهم في نفس الوقت أبعد من أن تشملهم خدمات الحكومات الأمريكية الصحية والمتمثلة في قسم الخدمات الطبية والإنسانية، حيث أُنشئ برنامج (Medicare and Medicaid) لمساعدة الفقراء والعاطلين والمسنين وذوي الدخل المحدود الذين ليس لديهم المقدرة لشراء تأمين صحي، وهو برنامج محدود جداً، ولا يستطيع أن يشمل الجميع، وإن كان هناك احتمال ولو ضئيل في أن يحصلوا عليها، وبالتالي فإن التأمين الصحي أدى إلى الطبقية؛ فهناك مَنْ يحصل على أفضل الخدمات، وهناك في نفس المجتمع مَنْ لا يحصل على أي شيء، بل يبقى فريسة للأخطار الصحية؛ حيث إن هناك أكثر من 60% من الفقراء كطبقة اجتماعية لا يشملهم برنامج (Medicaid)؛ حيث لا تنطبق عليهم بعض الشروط، وهم غير قادرين على شراء تأمين صحي يغطيهم ولو جزئياً، وهؤلاء لن توصد الأبواب في وجوههم، وهذا ما دعا الحكومة الأمريكية الحالية إلى التفكير في إلزام أصحاب الأعمال بتحمل ولو جزء من تكاليف علاج موظفيهم مشاركة مع الحكومة، ولكن هذا لن يحل المشكلة؛ لأنه ليس جميع أفراد المجتمع يعملون. ولعل هذه المشكلات وأمثالها هي ما دعا بعض المجتمعات الرأسمالية مثل بريطانيا إلى التخلي عن التأمين الصحي التجاري والعمل على عدم ربط دخل الفرد بإمكانية حصوله على الخدمات الطبية، وذلك بتبني نظام تقديم الخدمات الطبية لجميع أفراد المجتمع ودون استثناء كجزء من مهام الحكومة التي ترى من واجبها تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين كحق مكتسب، وذلك رغم أن النظام الرأسمالي من هذا الجانب. ومن أسباب عدم قبول بعض المجتمعات الرأسمالية للطبقية التي يولدها التأمين ما ذكرناه في السابق من أن الصحة موضوع حساس، ويحظى بتعاطف المجتمع بشكل فطري؛ فمن الصعب قبول درجة كبيرة من التفاوت عند توزيع خدمات وموارد القطاع الصحي على فئات المجتمع حتى في المجتمعات الرأسمالية التي تقبل أو تتعايش مع الطبقية في مجالات كثيرة أخرى.
وهناك موضوع اقتصادي أكثر منه صحياً، وهو أن التأمين يؤدي إلى توفير رؤوس أموال ضخمة يمكن لشركات التأمين استثمارها في مجال الصحة وفي مجالات القطاعات الاقتصادية الأخرى، سنناقشه لاحقاً - بإذن الله - حيث إن التكافل الاجتماعي في الإسلام بمؤسساته المتعددة وأنظمته سيجعل من السهل على الباحث الجاد رسم معالم لبدائل مقبولة ومدعومة بأمثلة حية وليست بالضرورة منطبقة تماماً مع النماذج الحالية للتأمين الصحي.
ومع هذه الفروقات بين التأمين الصحي التجاري (H.I) وتأميم الخدمات الطبية (NHS) من حيث النظرية والتطبيق يظل السؤال عما هو أنسب نظام من هذه الأنظمة الذي يلائم تركيبتنا السكانية والجغرافية ويطابق احتياجنا ورغباتنا في المملكة من الناحية الدينية والاجتماعية والثقافية والمادية.. إلخ، في محاولة الوصول للحلول المناسبة والاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في هذا المجال، وكذلك إيجاد البدائل التي تساعد في تطوير ورفع مستوى الخدمات الصحية؛ فالنماذج المنفذة في أرجاء العالم كثيرة ومتعددة، ويمكن الاسترشاد بها لتحقيق هذا الحلم بما يتفق وطموحاتنا وتحقيق أقصى فائدة تعود بالنفع على المواطن والمقيم.
ولكن في كلا النظامين يبقى الهدف واحداً، وهو أن تبقى الصحة متوافرة وفي متناول الجميع على حد سواء، تحت نظام يجسد مفهوم التكافل الاجتماعي في الإسلام بمؤسساته المتعددة والتعاون في تحمل تكاليف الرعاية الصحية وتوزيع أعبائها المالية على أكبر قدر ممكن، وذلك بالمشاركة بين الرؤساء والمرؤوسين، الأغنياء والفقراء؛ حيث إن التأمين الصحي والتحديات المستقبلية للنظام الصحي السعودي يكون في الأول دراسة اقتصادية صحية استراتيجية في سبيل تحسين الجودة، وتقليل التكاليف في القطاع الصحي، وتوجهاته المستقبلية، وكيف يكون لبرامج التأمين الصحي استراتيجية فاعلة في تخفيض تكاليف الخدمات الطبية، والطرق المثلى لتشغيل المرافق الصحية لتحقيق الإنتاجية في ظل الموارد المتاحة حالياً ومستقبلاً.
دكتوراه إدارة المستشفيات في التأمين الصحي
altassan2000@yahoo.com