أصبح مصطلح الثوابت الفلسطينية اللازمة لكلِّ خطاب سياسي فلسطيني، خطاب أحزاب السلطة وخطاب أحزاب المعارضة - مع التباس مفهوم السلطة والمعارضة فالقوى الحاكمة في الضفة تشكِّل معارضة في غزة والعكس صحيح -، لازمة خطاب الذين يتحدثون عن السلام والمفاوضات وخطاب الذين يتحدثون أو يمارسون المقاومة والجهاد. كلما أقدمت القيادة الفلسطينية على خطوة نحو التسوية أو حضرت مؤتمراً أو جلست لتفاوض إسرائيل .... إلاّ وارتفعت الأصوات محذِّرة من التفريط بالثوابت، وكلما قام فصيل بعملية عسكرية، ناجحة أم فاشلة، إلاّ وبرّر ذلك بالدفاع عن الثوابت الوطنية. الذين يجلسون على طاولة المفاوضات مع الإسرائيليين والذين يطلقون الصواريخ ويتهمون المفاوضين بالخيانة، جميعهم يبرِّرون ما يقومون به بالدفاع عن الثوابت الوطنية!، حتى الاقتتال الداخلي ثم انقسام ما كان يُفترض أن تكون أرض المشروع الوطني تم تبريرهما بالدفاع عن الثوابت الوطنية، الذين استشهدوا أو أُسروا أو جُرحوا كان ذلك دفاعاً عن الثوابت، والذين كدّسوا الثروات وعاثوا فساداً هم من القائلين بالتمسُّك بالثوابت الوطنية!
فما هي هذه الثوابت الوطنية التي تستوعب كل هذا التناقض بين القائلين بها؟ وما العلاقة بين خطاب الثوابت والواقع الذي ما وجدت الثوابت والمشروع الوطني إلاّ لتغييره؟ الثوابت موضوع الحديث ومحل التداول هي حتى الآن شعارات تعبِّر عن أهداف وتطلُّعات شعب تحت الاحتلال، إنها حقوق سلبها الاحتلال والشعب منح ثقته وفوّض زعامات وقوى سياسية قيادة العملية النضالية لإنجاز هذه الأهداف أي لتحقيق المشروع الوطني، لتحويل الثوابت من مشروع لواقع مُجسد بدولة مستقلة ذات سيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة وعودة اللاجئين، ويفترض أن يكون الحكم على شرعية هذه القيادة وجدواها هو مدى التقدم الملموس نحو الحرية والاستقلال، وليس مجرّد الحديث عن التمسك بالثوابت وادعاء عدم التفريط بالحقوق.
شرعية القيادة السياسية مستمدة من قدرتها على تحقيق الأهداف الوطنية وليس من خطاب التمسك بها، فالشرعية يجب أن تكون شرعية الإنجاز وليس شرعية الخطاب أو شرعية مستمدة من كثرة عدد الجنازات وبيوت العزاء واستعراض أشلاء الأطفال وعويل النساء بعد كل عدوان صهيوني. ماذا ينفعنا خطاب التمسك بالثوابت أو القول بعدم الاعتراف بإسرائيل، مادامت الأرض تضيع من يدنا شبراً شبراً، والشهداء يتساقطون يومياً، والشباب والكفاءات يتسربون من الوطن ليضافوا لجموع اللاجئين في الشتات، والشعب يتحوّل لجموع تعيش على الصدقات والمساعدات الخارجية المشروطة بشكل مهين؟ وماذا ينفع خطاب التمسك بالثوابت وعدم الاعتراف بإسرائيل فيما هذه الأخيرة تواصل عمليات الاستيطان، وتعزّز حضورها دولياً، وتكتسب مزيداً من الدعم والاعتراف حتى من دول عربية وإسلامية، ودول كانت تصنّف كحلفاء استراتيجيين لنا قبل سنوات؟ ماذا يفيد خطاب التمسك بالثوابت الوطنية أو عدم الاعتراف بإسرائيل فيما مَن يُفترض أنهم يتمسكون بالثوابت يتصارعون ويتقاتلون مع بعضهم بعضا؟ ما قيمة خطاب عدم الاعتراف بإسرائيل فيما إسرائيل توظِّف هذا الخطاب لكسب مزيد من الاعتراف والتأييد الدولي؟ ما قيمة خطاب التمسك بالثوابت ونحن غير قادرين على التمسك بما هو متاح بيدنا من أرض أو إدارتها؟ بعد كل ذلك ما الذي سيتبقى من الثوابت لنتمسك به إلاّ الشعارات، وتاريخ نضالي وقبور شهداء نبكي على أطلالها؟
لقد بات خطاب التمسك بالثوابت أو ترديد خطاب عدم الاعتراف بإسرائيل مجرّد أيديولوجيا وخصوصاً عندما يضفى عليه طابع ديني، تحول خطاب التمسك بالثوابت لأيديولوجية مخدرة لجماهير فقيرة ومحبطة ومحاصرة. بات الانشغال بخطاب الثوابت والمرجعيات يشغل الحيّز الأكبر من الاهتمام على حساب العمل على تحقيق هذه الثوابت، حتى باتت شرعية السلطة والأحزاب تستمد من الخطاب والشعارات وليس من الإنجاز إلاّ عمليات مسلحة محدودة واستعراضية وأحياناً عبثية للقول بأنّ هذا التنظيم أو ذاك ما زال يسير على درب التحرير.
كلُّ مكونات الطبقة السياسية الفلسطينية تدّعي أنها تتمسك بالثوابت الوطنية، وأنها لم ولن تفرط بها ولن تعترف بإسرائيل، وعدم التفريط في نظرها يمنحها شرعية الوجود والحكم، بل والصراع للوصول لسلطة تحت نير الاحتلال، وحسب هذا المنطق لم يعد الإنجاز والتقدم نحو تحقيق الأهداف الوطنية هو المقياس لشرعية القيادة، بل مجرّد التمسك اللفظي بهذه الحقوق، بغض النظر هل هذه الحقوق في مِلكنا وتحت تصرفنا أم هي حقوق محتلة، ولا ندري بأي منطق يفكرون؟ فهل الشعب جاء بهم أو قبل بتسيُّدهم عليه من أجل أن يتمسكوا بشعارات؟ أم ليحولوا الشعارات واقعاً؟ فإنْ لم يكونوا هم مَن يتحمّل المسؤولية عن عدم التقدم نحو الإنجاز فمن يتحمّل المسؤولية؟ بل وصل الأمر لأن تعتبر الأحزاب السياسية أنّ كثرة عدد الشهداء والجرحى والأسرى مقياس لانتصاراتها ودالّة على أنها متمسكة بالثوابت، وهو مقياس يؤدي لنتيجة أنّ مقتل كل الشعب يصبح قمة الانتصار! وأصبحت هذه الأحزاب تعتبر إنهاء عمر الزعيم السياسي دون أن يتخلّى عن الثوابت هو قمة الإنجاز الذي يستحق الافتخار به، ويصبح الأموات مصدراً إضافياً للشرعية كما هو التاريخ الموهوم .. مع كامل التقدير والاحترام للقادة الذين قضوا دون التفريط بالحقوق، إلاّ أننا لا نريد أن يصبح خطاب عدم التفريط أيديولوجيا ومصدر شرعية لكل متنطع لقيادة الأمة، وبالتالي يغيب مبدأ المحاسبة على السلوك والإنجاز.
يقينا، المشكلة لا تكمن في حق الشعب الفلسطيني أن تكون له ثوابت وطنية أو مشروع وطني، بل في الاختلاف حول الثوابت، المشكلة بطبقة سياسية عجزت وفشلت في الاتفاق حول المشروع والثوابت، وهو فشل أدى لغياب استراتيجية وطنية للتعامل مع القضية، فشلت في الاتفاق على استراتيجية مقاومة، وفشلت في الاتفاق على استراتيجية سلام، وفشلت في الاتفاق على استراتيجية توفق ما بين المقاومة والسلام، حيث لا تناقض بين الاثنين. نلمس المشكلة اليوم في ارتباك المواطن في محاولة معرفته مَن يمثل الثوابت الوطنية وله حق التفاوض والتصرف باسم الأمة؟ هل هي الحكومة في رام الله؟ أم حركة حماس وحكومتها؟ أم حركة فتح؟ أم منظمة التحرير؟ أم أنّ الشعب بدأ يفقد ثقته بكل هذه الأطر؟ عندما تختلف أمة من الأمم على الثوابت فهذا مؤشر بأنّ الأمة تعيش مأزقاً وجودياً خطيراً. وفي ظل غياب القرار الوطني المستقل عند كل الأطراف، هل ما زال المشروع الوطني وطنياً؟
ibrahem_ibrach@hotmail.com