تفتخر الكثير من السيدات بنظافتهن المنقطعة النظير، ونميل إلى تصنيف المتأنقين والمتنطعين بالنظافة على أنهم متعلمون (متحضرون) وهم يلبون متطلبات الإنسان المعاصر في أن يحافظ على صحته العامة عبر التمسك بأهداب النظافة، ونحن نجهد أنفسنا فعلاً بمزيد من النظافة والتلميع حينما نتوقع زواراً
فضمن الأحكام غير المكتوبة على شخصياتنا ومستوانا الاجتماعي والاقتصادي هو هذه النظافة والأناقة التي نظهرها للآخرين في حين قد لا يثير انتباهنا القليل من الفوضى حينما نخلو لأنفسنا!
ومن خلال هذه المقاييس يجهد الكثير من ساكني الحي الذي أقطنه في تنظيف بيوتهم ومقدمات بيوتهم وسياراتهم متى ما حلا لهم ذلك.. والمدهش هو هذه القنوات المائية المنطلقة من البيوت لتلبي جفاف الشوارع الداخلية لأحيائنا أو هو رب المنزل أو السائق يلعب في حبور بخرطوم المياه على سيارات العائلة ليريهم كم هو نظيف ومتقن في عمله!
ولأن الرياض تتميز بما حبا الله به مثل معظم مناطق المملكة من قلة المطر وكثرة الغبار لذا فإن أحد أساليب التسلية المشهورة ضمن نطاق حينا هو التسلي بطرح المياه خارج المنازل لمقاومة هذه الآفة ولأن المنزل والسيارة فعلاً يبدوان بعد التنظيف أكثر قابلية للسكنى والاستخدام.
مقابل هذه المعايير الاجتماعية والشخصية التي نتبناها، تحلو لي دائماً المقارنة إذ أتاح الله لي الصيف الماضي زيارة لأستراليا.. البلد الذي يدفعك له أولاً وقبل كل شيء طبيعته الخلابة والمحافظة الشديدة على نقاء البيئة وطبيعيتها رغم الموارد الطبيعة الهائلة ورغم البحار والأنهار الهائلة والفيضانات التي لا تتوقف غير أن ما قد لا تتوقعه في بلد طبيعي كهذا أن حدث وتأخر المطر في النزول لأكثر من خمسة عشر يوماً متواصلة! يومها بدأ القلق الجماعي في بيئة مؤسسة على التفكير والتصرف الجمعي كما بدا أن محطات التلفزة والصحف ترى أن ذلك الأمر قد ينذر بكارثة بيئية محتملة.. وفي هذا الصدد لم تتوان الحكومات المحلية للمقاطعات من استصدار القوانين التي تنظم استخدام الأفراد للمياه بحيث تقرر ألا يتعدى استخدام الفرد في اليوم عدداً محدداً من الجالونات تتناسب مع مناسيب المياه في المناطق المختلفة، أتذكر كيف حرصت زميلتي الأسترالية مع زوجها على تنظيم الغسيل والاستخدام بحيث لا يتجاوز الكميات المحددة رغم الاحتمالات الكبيرة لسقوط الأمطار ورغم المخزون الهائل من الأنهار الطبيعية التي حبا الخالق بها تلك القارة، وهو ما حدث فعلاً إذا انتقم الله من بطرهم المفرط فأرسل الأمطار بعد خمسة عشر يوماً لتصل إلى حدود الفيضان ولنشهد متناقضات الطبيعة تعبث بهم لإفراطهم في الحرص دون مبرر!
يقابل كل ذلك تسامح لا يحد من قبلنا في استخدام مصادر المياه المحدودة ونحن لا نحتاج إلى أذونات أو عمليات معقدة لنضرب في أي استراحة أو أرض بئراً ارتوازية تمتص رحيق الأرض وتسبب التشققات الهائلة التي تشهدها معظم شوارع ومناطق المملكة وبخاصة في منطقة جدة، وهناك دراسة جامعة ومانعة للدكتورة مشاعل بنت محمد من قسم الجغرافيا في جامعة الملك سعود حول التأثير اللامتناهي للعبث بالمصادر البيئية على منطقة جدة، والتي أثق أن نشرها سيؤدي إلى هبوط القيمة المالية لبعض الأحياء والمناطق في جدة لما سيلحقها من تشققات وخراب خلال السنوات القليلة القادمة سواء كان ذلك بسبب السحب الجائر للمياه الجوفية أو الإساءة إلى البحر وتلويثه بما يلقى في جعبته من مخلفات المصانع المحيطة.
ماذا يهم في كل ذلك؟ فساكنو أحيائنا وكما أشهد كل يوم لا يخرجون عن هذا النطاق فهم مواطنون صالحون لكن ذلك لا علاقة له باستخدام أحد أكثر المصادر شحاً في المملكة وهو المياه، ولم يحدث أن ربطت المواطنة بالوعي بدرجة الأخطار المحدقة بنا من خلال هذا الشح، كما أن من العمالة أو صغار المواطنين من لا يعرف أن مياه الرياض مثلاً يتم تحليتها والصرف عليها كعروس مدللة لتصل عبر آلاف الأميال فنصرفها غير عابئين إذ من يعنى بملاحقة (رحلة قطرة ماء)، كما أننا بما فينا طلبة المدارس والجامعات لا نستطيع تصور حجم المشكلة التي سنواجهها في المنطقة قريباً وحجم الصراعات السياسية التي سترتبط بالثروة المائية في منطقة الشرق الأوسط.
أشعر أحياناً باليأس فأنا لا أحب البيئة المتربة في منزلي، كما أنه من الجميل أن تشاهد البقع الخضراء التي تحتويها حديقة المنزل الصغيرة دون رذاذ الغبار، وهاهي العمالة المنزلية موجودة وحيث لا قوانين على ساعات عملها فما الذي يمنعني من صرف مزيد من الساعات في مزيد من التنظيف الذي يثبت بريقنا الاجتماعي ويضخم من ذواتنا المنتفخة أصلاً؟
إنها معادلة صعبة بالفعل. فأنت أمام تاريخ خطر وحتمي لشح المياه لكن واقع الحال لا يضعك واستهلاكك في الاعتبار مقارنة بهذه البيوت المغرقة في الكبر والتوحش وبما تنثره دون حسيب أو رقيب في استخدامات طائشة لموارد البيئة المحدودة. من المعذب فعلاً ألا تجد الدعم الاجتماعي لبعض أخلاقيات الخوف على البيئة، وها قد بدأت أشعر بأنني فقط أحد أولئك المدروشين والمتنطعين الذين نقرأ عنهم وعن غرابة سلوكهم في الصحف اليومية أو كما يتم تصويرهم بشكل ساخر في المسلسلات التلفزيونية.
أنا أيضاً أشعر بالغرابة مما يخطر على بالي فعلاً حين أشاهد في أثناء خروجي من المنزل هذه المناظر التي أجدها صادمة. وأنا أصدقكم القول فهي صادمة فعلاً لي وأنا حتى الآن قد نجحت في مقاومة الرغبة في النزول إلى أصحاب هذه البيوت وإغلاق هذه الخراطيم العظيمة من المياه والتحدث إليهم (طبعاً برفق وأدب) حول شح المياه الهائل في المملكة، لكن كيف يمكن أن يحدث ذلك خصوصاً في الرياض؛ إذ من سيتحمل فكرة امرأة سعودية تقتحم عالم الغرباء والسائقين والشغالات لتحدثهم عن فكرة مجهولة وساذجة كهذه.. لهذا فقط أكتب لكم سائلة النصيحة فيما يجب فعله لمقاومة جنون القلق على المستقبل ولإقناعي بالعدول عن فكرة التحدث المجنونة من أجل التشبث بأهداب الأخلاقيات العامة المتوقعة من امرأة سعودية؟