تمثل آلية صناعة القرارات وصياغة السياسات أحد أهم معايير السلوك الحضاري للمجتمع.
بهذا المنظور يمكننا أن نرى الحوار الوطني باعتباره عملية عصف ذهني في نطاقه الأوسع لتحسين جودة صناعة القرارات والسياسات التي تمس صميم حياة المواطن وهمومه. وليس هذا منظورنا وحدنا تقييماً لجدوى الحوار أو تقديراً لأهميته، بل إن مراقبين كثر عبر العالم يتابعون التجربة بشغف، فهي جديرة بذلك لصلاحيتها في معالجة الكثير من الأمور.
وحسبنا هنا الإشارة إلى ما أبداه وفد برلماني بريطاني (برئاسة دانييل كوزنسكي) لرأيه في الحوار الوطني بأنه (تجربة جيدة وأنهم بحاجة لتكثيفها في بلدهم)، كما أبدى ملك السويد تقديره لتجربة المملكة وثمنها داعياً إلى استفادة الحركة الكشفية العالمية منها.
ولكن لماذا هذه الأهمية لتلك الآلية؟ إن فاعلية أية سياسة - قرار ترتبط بمدى صحة المعلومات الداعمة لصناعته، وجودة مصادر تلك المعلومات، ومدى المشاركة الواعية للأطراف صاحبة المصلحة في تلك السياسة - القرار.
فما بالنا إذا كان نطاق المشاركة يتسع لمن يمارسون ميدانياً، ويواجهون المشكلات، ويتعرفون على المصاعب، ومن يمتلكون خبرات سابقة. هنا لا تتم صناعة القرارات بمعايير انتقائية، أو اعتبارات شخصية، بل تشارك كافة الشرائح المعنية صانع القرار - وإن بلغ قمة الهرم التنظيمي - في عمليات التحليل والتفضيل من بين البدائل، والأولويات، والتقييم.
بل إن صانع القرار ومتخذه ليستفيدان مباشرة من ذلك الدعم الذي يوفره الحوار، ليس فقط باعتباره تغذية عكسية لنظام يدير مشكلات مجتمعية، ولا حتى باعتباره نوعاً من قياس اتجاهات الرأي العام فحسب، بل لبيان أثر السياسة - القرار في حل المشكلة وتبعات هذا الحل، وتقدير مدى فاعلية منهج الحل الذي انتهجه كل منهما.
إن قضية مجالات العمل والتوظيف باعتبارها حواراً بين المجتمع ومؤسسات العمل لتوضح جلياً كافة الأبعاد والعوامل المؤثرة فعلاً في عمليات التوظيف، تلك التي يلتمسها من يخططون (إستراتيجية التوظيف السعودية)، ومن ينفذون (القطاعان الحكومي والخاص ووزارة العمل ومنظمات التدريب والتنمية)، ومن يستفيدون (الشباب الخريجون والباحثون عن العمل). على أن الحوار شأنه شأن أية آلية لا ينبغي أن يترك لتتبعثر جهوده، أو تشتت أفكاره، وذلك بتحديد النهج والبرامج والجداول والتنظيم والتنسيق، فتركيز الجهد والفكر نحو موضوع محدد، في سياق واضح ومتفق عليه إنما هو سبيل استثمار الحوار.