(الإعلام المعاصر) بكل أدواته ووسائله الحديثة، وتقنياته المتجددة، عنصر أساس وفاعل في نشر المعرفة الإنسانية ذات الصلة بجوانب النشاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، عبر الخبر، والتقرير، والتحقيق، والحوار، والمناقشة، والاتصال الجماهيري، وعبر مزيج متنوع من الآراء والأفكار، والمواقف.....
..... والأطروحات، التي تعكس بطبيعة الحال التناقضات الإنسانية النابعة من التباين في التوجهات الفكرية والمذهبية.
وهذا المزيج المتنوع من المنتج الإعلامي المعاصر متباين في درجة مصداقيته وموضوعيته، بل إنَّه مزيج يجمع بين الشيء ونقيضه، بين الغث والسمين، والصدق والكذب، والحق والباطل، والفضيلة والرذيلة، والعلم والجهل، ونحو ذلك من المتناقضات.
والتجربة العربية في مجال الفضائيات امتداد لهذا المزيج المتناقض، وإن كانت خطورته أكبر، وتأثيره أشد، جرَّاء وحدة اللغة، وتجانس البيئة.
تشير إحصائية حديثة إلى أنَّ عدد الفضائيات العربية قد تجاوز (50) فضائية ما بين (إخبارية وثقافية ومنوعات) تحتضن دول الخليج العربي العدد الأكبر منها، يليها بلاد الشام، وشمال أفريقيا، كما يمتلك القطاع الخاص أكثر من (70%) من المجموع الكلي لها. وحسب دراسة علمية صدرت مؤخراً تمثل البرامج الفنية أو ما يسمى بالترفيهية ما نسبته (60%) من ساعات بث هذه الفضائيات.
بما يخص البرامج التي تبثها بعض الفضائيات العربية مثل (الدراما، المنوعات، البث المباشر، شريط الرسائل النصية) فإنَّ جُلَّها يفتقر إلى المعايير الأخلاقية، والمسؤولية المهنية، فهي لا تخلو في الغالب من دراما تخدش الحياء، وتجرح المشاعر،وتثير الغرائز، وتؤطر لقيِّمٍ وسلوكيات تعمل على هدم المزيد من جُدُر العفة والفضيلة، وتوطَّن لثقافة دخيلة مستوردة، ذات قيِّمٍ مادية بحتة، تُغلِّب الفوضى الأخلاقية.
إضافة إلى الدراما تبث هذه الفضائيات برامج المنوعات، المسجلة منها والمباشرة، والتي يغلب على أكثرها طابع السطحية، وخواء المضمون والمحتوى، ويُعرض من خلالها الكثير من المنكرات والمفاسد، التي تعبث بعقول وقلوب الشباب والناشئة، وتدفع بهم نحو التعلق بثقافة ذات مردود سلبي شديد نسبياً على منطلقاتهم الفكرية والعقدية والأخلاقية، فضلاً عن إهدار جلَّ أوقاتهم بما لاطائل منه.
وخلال السنوات القليلة الماضية اتسع استخدام شريط الرسائل النصية، ومادته الأساسية ذات مستوى لغوي وأدبي هابط، وغير أخلاقي، قد ينحدر في بعض الأحيان إلى مستوى الفحش والفجور.
ولأنَّ الشباب والناشئة في مراحل عمرية شديدة التأثر بالمعطيات الجارية، وسريعة الاندفاع نحو الجديد دون فحصٍ أو تمحيص، فقد كانوا وقود هذه الفضائيات، إذ غذت لديهم نزعة التقليد، لكل المشاهد المرئية من برامج منوعات ودراما، انطبعت على سلوكياتهم ونمط حياتهم، وظهرت على سطح الحياة الاجتماعية، في صورة تعليقات غريبة، وتصرفات مشينة، وأفعالٍ شاذة، والأدهى من ذلك ما يتعلق بالمشاهد التي تُحَّرض على بناء العلاقة غير السوية بين الرجل والمرأة، أو الشاب والفتاة، إذ انعكس إدمان بعض الشباب والناشئة من الجنسين على هذه النوعية من المشاهد،على حياتهم الواقعية من خلال محاولات التقليد، وبناء علاقات مشابهة، فأدخلوا أنفسهم ومجتمعهم في إشكالات أخلاقية واجتماعية وأُسرية، وعلى المستوى الكلي أسهمت هذه النوعية السيئة من برامج هذه الفضائيات العربية في تأجيج النزعة الفوضوية والعبثية لدى الشباب والناشئة بكل أركان نظامهم الاجتماعي وقواعد الحراك الاجتماعي المنضبط.
إزاء كل هذه النتائج الاجتماعية شديدة السلبية نسبياً على أركان النظام الاجتماعي الحاكم لكل التصرفات والسلوكيات داخل المجتمع، ندرك جميعاً مخاطر العمل الإعلامي إذا تحلَّل من التزاماته ومسؤولياته الأخلاقية، والتزم بمعايير نفعية استغلالية تستهدف تعظيم الربح المادي إلى أقصى درجة ممكنة، وتمرير ثقافة الفوضى الأخلاقية، وترسيخها بين شباب المجتمع وناشئته.
في شهر فبراير من عام 2008م أقرَّ مجلس وزراء الإعلام العرب وثيقة (مبادئ تنظيم البث والاستقبال الفضائي الإذاعي والتلفزيوني في المنطقة العربية) وقد تضمنت (12) بنداً، أكدت في مجموعها على أهمية احترام حرية التعبير، وكرامة الإنسان وخصوصياته، والالتزام في الوقت نفسه بالمعايير الأخلاقية، والمسؤولية الاجتماعية على وجه العموم.
وبما يخص المعايير الأخلاقية أشارت الوثيقة إلى ضرورة الالتزام بالقيِّم الدينية والأخلاقية للمجتمع العربي، ومراعاة بنيته الأُسرية وترابطه الاجتماعي، والامتناع عن بث وبرمجة المواد التي تحتوي على مشاهد وحوارات إباحية أو جنسية صريحة، أو تسيء إلى الآداب العامة، والامتناع عن بث المواد التي تشجع على ارتكاب المنكرات، مثل التدخين، وتعاطي الخمور.
كما أكدت الوثيقة على الالتزام بتطبيق المعايير والضوابط المتعلقة بالحفاظ على الهوية العربية في شأن كل المصنفات التي يتم بثها، بما في ذلك الرسائل القصيرة(SMS) والالتزام كذلك بصون الهوية العربية من التأثيرات السلبية لثقافة العولمة.
ويجري العمل حالياً على إيجاد آلية، يتفق عليه عربياً، لتنفيذ ما ورد في متن هذه الوثيقة، والأمل أن تتبلور هذه الآلية في أقرب وقتٍ ممكن، حتى لا تلحق هذه الوثيقة الجديدة بنظيرتها (وثيقة الشرف الإعلامي) التي ظلت حبراً على ورق طوال السنوات الماضية.
قد تختلف الآراء والمواقف حيال بنود هذه الوثيقة، وقد يراها البعض أنها غير قادرة على تلبية طموح الخيِّرين في إيجاد صناعة إعلامية إبداعية، تحترم القيِّم والقواعد الأخلاقية، ولكن، وكما يقال أول الغيث قطرة، والمهم أن تستمر الخطوات، وتتكاثف الجهود، للتضييق على محترفي العبث الإعلامي، ومنعهم من الاستمرارية في استغلال التقنية الإعلامية المعاصرة لتلويث فضائنا العربي بثقافة استهلاكية تستبيح القيِّم والمنطلقات، وتعمل في اندفاعٍ مادي غير مسبوق، على اختراق الأمن الأخلاقي والاجتماعي العربي، بكل الأدوات والوسائل والبرامج الممكنة، لتحقيق طموحاتها المادية والعبثية.
إنَّ صناعة الإعلام العربي يمكن أن تحقق مكاسب إعلامية واجتماعية وثقافية واقتصادية دون أن تزايد على قيِّم المجتمع وثوابته، وهناك بالفعل فضائيات عربية، وإن كانت قليلة العدد نسبياً، تعكس هذا التوجه، وتسعى إلى إعادة إحياء الكثير من القيِّم والمكتسبات التاريخية المتراكمة للأمة.
ويأمل كل الخيِّرين أن يزداد ويتنوع عدد الفضائيات العربية المحترمة الملتزمة بواجباتها المهنية والأخلاقية، وأن تظهر بلباس التميز والإبداع، لتكون قادرة على منافسة الفضائيات الأخرى، وجذب المزيد من جمهور المشاهدين والمستمعين إلى برامجها ومنوعاتها.