جدة - خاص ب(الجزيرة):
أكد فضيلة الدكتور عبدالله بن علي بصفر الأمين العام للهيئة العالمية لتحفيظ القرآن الكريم، على أن حفظ كتاب الله وتجويده وتدبر معانيه، هو الحصن الحصين للشباب من الانحراف، مشيراً إلى أن الشاب الذي يحفظ كتاب الله، ويتدبر معانيه، ينعكس إيجابياً على سلوكه، وتعاملاته داخل أسرته ومجتمعه، لأن كتاب الله هو الذي يدلنا على الخير، والوسطية، والاعتدال في التعامل.. جاء ذلك في الحوار مع الدكتور عبدالله بصفر.. وفيما يلي نصه:
* كيف ترون الآثار الإيجابية لحفظ كتاب الله على الشباب في المجتمع؟
- إن من أعظم نعم الله علينا أن جعلنا مسلمين، وأنزل علينا ذلك الكتاب المعجز العظيم؛ القرآن فهو سبيل كل خير، وطريق كل فلاح ونجاح، فهو كتاب هداية ونور، وشفاء لما في الصدور، فمن تمسَّك به فاز واهتدى، وخرج من ظلمات الغواية والردى إلى نور الهداية والرشاد، ومن أعرض عنه ضل وغوى، وخسر في دنياه وأخراه، فهو في الدنيا في ضنك واضطراب، ويحشر في الآخر أعمى -والعياذ بالله.
قال ابن عباس رضي الله عنهما (تضمن الله لمن قرأ القرآن واتبع ما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة). يشير إلى قوله سبحانه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}، وقال سبحانه: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم) أ. هـ.
ولهذا نجد حملة التنزيل الحكيم الذين أنار الله تعالى بصائرهم ومنحهم تقواه فهدوا إلى الحق وتفتحت لهم أبواب المعرفة، وامتزجت أفئدتهم بآيه وتعاليمه ورتلوه في الغدو والآصال فانقادت جوارحهم لطاعة ربهم، واطمأنت قلوبهم بذكره، وكانوا من عباد الرحمن فهم يمشون على نور، وتتجلى مظاهر الوسطية في سلوكهم، لأنهم يعتصمون بأشرف الذكر من مضلات الفتن، فهم محصنون من الأهواء والزيغ، يحملون مشعل الوسطية ويطبقون منهج الله سبحانه، فهم يتجاوزون مرحلة الإيمان النظري إلى مرحلة أزكى وأرقى، فهم من المجتمع غرته وخياره، يهدون إلى الرشد ويحاربون كل بدعة، وينشرون التوجيهات الربانية بين الناس، تلاوة وعملاً دون القصد على أحدهما.
* أليس حفظ الشباب لكتاب الله يقيهم من التطرف والانحراف؟
- حفظة كتاب الله في مجتمعنا المسلم بمنأى عن مظاهر الغلو في الدين في عصرنا الحاضر، وتشكل سداً منيعاً من التهاوي في دركات أهل الأهواء، وترفض التشدد في الدين والتنطع الذي يعتبر من المهلكات. ومن تأمل تعاليم القرآن وتدبر آياته، رأى أنها تربي أبناء هذه الأمة على الوسطية والاعتدال، والسماحة والعدل والإنصاف والأخلاق العالية الفاضلة، والقيم النبيلة، كما أنها تربيهم على قوة الارتباط بالله تعالى وحسن عبادته ومراقبته والخوف منه، وهي تربيهم كذلك على السمع والطاعة لولاة أمرهم في المعروف. ومجموع هذه التعاليم القرآنية تحفظ النشء والشباب عن أي بادرة غلو وإفراط، أو تفريط وانحراف. وسوف أستعرض بعض هذه النصوص وأبين شيئاً من آثارها في تربية النشء والشباب على الاعتدال وحمايته من الأفكار المنحرفة. ومن هذه النصوص قوله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}.
* الأمة الوسط.. كيف نغرس هذا المفهوم في قلوب وعقول الشباب؟
- الله عز وجل جعل هذه الأمة خير الأمم، وآتاها من المناهج والشرائع خيرها وأبقاها، فكانت هي الأمة الوسط من بين الأمم، وفي تلك الآية توجيه للشباب والنشء أن يكونوا ضمن هذه الوسطية المباركة وأن لا يشذوا عنها، وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}. وفي تلك الآية تربية للنشء والشباب على طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر، كما أنها تربيهم على رد كل أمر عند الخلاف والتنازع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وفي هذا غاية الحماية لهم من كل فكر منحرف دخيل، فالآية تمثل سياجاً واقياً لهم من كل انحراف أو غلو أو تفريط، وقول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
* الخروج على ولاة الأمر كيف ترون خطورته شرعاً؟
- العدل ضد الظلم، والإحسان ضد الإساءة، وإيتاء ذي القربى ضد القطيعة، والمنكر ضد المعروف، والفحشاء ضد العفة، والبغي ضد طاعة ولي الأمر المسلم، وحرمة الخروج على ولي الأمر المسلم أكد عليها كتاب الله، فأهل القرآن أصحاب رسالة في الحياة، هي رسالة رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم يتأسون به في دعوته فهو أسوتهم، وقائدهم كتاب ربهم الذي حفظوه بقوله لهم: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}. وقوله: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وقوله: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}. منهجهم الصبر ويدفعون السيئة بالحسنة: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}، هذا مع الكفار المناوئين للدعوة فكيف مع المسلم!!، وقول الله جل وعلا: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، وقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
ونحوها من الآيات التي ترغب في الحوار مع الآخرين - سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين - بالحكمة والموعظة الحسنة، وفي هذا تربية للنشء والشباب والمسلمين عموماً على الاعتدال وقبول الآخر، والتعايش معه، ونبذ للأفكار المنحرفة التي تدعو للصدام المسلح دون الاهتمام بإيصال الدعوة أو تبليغها أو حوار المخالف ورد شبهاته.
* حماية النشء من الانحراف الفكري ورد فيها نصوص كثيرة في كتاب الله، لماذا لا يدركها بعض الشباب؟
- النصوص القرآنية التي تحمي النشء والشباب من الانحراف الفكري كثيرة، تلك الآيات التي تأمر بالعدل والإنصاف لا سيما مع المخالفين، وأن لا يحمل بغض المخالف على ظلمه وعدم توفيته حقه، فإن التزام المسلمين والنشء والشباب منهم -على وجه الخصوص- بتلك التعاليم القرآنية، خير وقاية بإذن الله من تلك الأفكار المنحرفة.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
وقال سبحانه: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
وهناك الآيات التي تأمر بامتثال العبادات من صلاة وصيام وحج وزكاة وصلة رحم وبر بالوالدين... الخ، فمثل تلك العبادات -لا سيما الصلاة- لمن أداها على وجهها وأخلص لله فيها، تربط القلب بالله تعالى، وهي مصدر للأمن والاستقرار النفسي، وهي ينبوع السعادة والاطمئنان، ولها أثر مباشر في تقويم سلوك الأفراد، وهي وسيلة فاعلة للوقاية من العنف والغلو، والتربية على الوسطية والسماحة والاعتدال، فالتزام النشء والشباب بطاعة الله تعالى، وأداء العبادات التي يأمر بها القرآن ويوجه إلى امتثالها، يجعل من نفوسهم منبع خير وأمان، ومصدر انضباط واعتدال واتزان، وأصبح سلوكهم تبعاً للوحي الإلهي والنهج القرآني، وسلم من كل فكر منحرف دخيل، وجاءت النصوص الكثيرة في كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- تأمرنا بالاستقامة على هذا المنهج الوسط، والذي لا انحراف فيه ولا شطط، وتنهانا عن الجنوح والتطرف، أو الميل عنه لسواه، سواء كان ذلك بغلو أو جفاء. ومن ذلك قوله سبحانه:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ}.
وقوله سبحانه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}.
وقوله جل وعلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. وورد في تفسير هذه الآية عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: خط لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطاً وقال: (هذا سبيل الله)، ثم خط خطوطاً عن يمينه ويساره وقال: (هذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه)، ثم قرأ قوله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}، فطريق الله واحد، وسبل الشيطان كثيرة يتيه فيها الإنسان، فمن اتبع سبل الشيطان تاه وضاع واختل، لأن أمامه سبلاً كثيرة، ولكن من اتبع سبيل الله اهتدى واطمأن وارتاح، لأنه سبيل واحد، صراط الله المستقيم، هو الصراط الموصل إلى رضوان الله، هو الصراط الذي يؤدي بك إلى جنة عرضها السموات والأرض، ويحصل التزامه بالرجوع إلى كتاب الله تبارك وتعالى والاعتصام به، ومن تلك النصوص كذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فقد حددت هذه الآية أساس العلاقة بين البشرية، وهو أن الأصل في العلاقة البشرية في الإسلام، علاقة التعارف والتعاون والدعوة والخير، لا علاقة التصادم والإجبار والإكراه والقهر، ذلك التعارف الذي يؤدي إلى تبادل المنافع وإيجاد التعارف فيما بينهم، لذا فإن هذا التعارف يتطلب وجود علاقة تتسم بالود وقبول المخالف، ولهذا وغيره من القوانين السامية التي سنتها شريعة الله سبحانه، تعايش المسلمون مع غيرهم من أبناء الرسالات الأخرى، وقد تبادل المسلمون وأهل الكتاب الطعام، حيث أحل الله لكل فريق أن يأكل طعام الآخر، قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ} وقد حرم الإسلام شتمهم أو شتم دينهم، أو تسميعهم ما يكرهون، وحرم سفك دمائهم، وسمح بزيارتهم، وعيادة مرضاهم، وبالتبادل التجاري معهم، وفي كل ذلك تربية للنشء والشباب من الجنسين على الوسطية والاعتدال، وحماية لهم من كل فكر منحرف دخيل.