دروب السفر تبهرني كلما غذَّت الغربة وغرست نبالها في صدر حنيني...
أوَّل شيء أشتاق إليه هو ركني العتيق الذي يؤنسه صرير قلمي...
ما توكأت على قلمي في غربة إلا وأنَّ شوقاً إليه...
ارتباط المفكر ببقعة صغيرة تلمّ أفكاره وتوحي بفلتاتها الشاردة... وتلئم شتاتها... هو حبل موصول لا يجزه درب مهما تلوَّعت مراميه... وتنوعت مآربه... طال أم قصر... بعُد أم قرب... صعُب أو سهُل... تيسرت فيه الأغراض... أو تعسرت فيه الغايات...
دروب السفر نوع من الحرب... عتادها غير مؤنة المعركة... وجنودها غير طيوف الوغى... دروب السفر آهلة بالصمت حتى إذا ما ركنتَ لأوبة استراحةٍ... كانت جيوش أبجديتك صوتَ لغتك النافرة الفارهة على سديم قرطاسك...
وأتذكر آخر لقاء بشوقي البحاثة في مرحلة كنا نتخطف كتبه، تلك التي لا بد لنا أن نمتثل في صالة الاختبار للإفراز عنها... كان يتطلع بعينه المزمومة عن جنبه الأيمن وهو يتحوط بيديه خاصرته في جلسة على مكتبه بكلية الآداب في الجامعة ببلد الشمس تشرق على أهرام الفراعنة العتاة... وعدد لا بأس به من المريدين لقاءه ينتظرون من بعدي... الغروب كان يدك نافذة مكتبه... وهو بهدوء وقور يسأل: هل تتوقعين أن أجيبك كتابة أم شفاهة؟ كان السؤال تحكيماً لمعيار علمي عن مناهج الأدب في الجامعات العربية؟... شوقي ضيف لم أتركه بعدها إلا وقد سطر في ذاكرتي ما لا أنساه عن أجمل صور دروب السفر وهي توصل المرء بطيوف أصحاب الحروف، تلتهمها في الصحائف فيخرجون إليك أرواحاً ناطقة في وجه الشمس... ذلك الغروب أشرق حين لم أترك مكتبه بخفي حنين بل بزوادة من حكمة وعميق رأي...
دروب السفر لملمت فيها أوراق الصفصاف، كلّ ورقة منها محفورة فيها بصمة عالم وخفقة مبتكر...
تتحول دروب السفر لأديم مخملي بعد مفصل من الوقت حين يتاح لك أن تجلس لركنك العتيق وتستعيد شريطاً تمايز فيه بين الصور... وتعيد قراءة الأفكار والوجوه... ومن ثَمّ يكون الوقت كريماً معك لتعقد مقارناتك... وتقف على مفارقات ما بين صوت وآخر... ووجه وآخر... بل بين قيم تبقى وتسود وأخرى تعصف بها يد المكوك الدائر بك في ملكوت الوقت... وتعددية الأسفار ومختلف بوصلات الدروب... حين يكون السفر مطية لما هو آت...