(1)
** تستيقظُ الذاكرةُ الشعبيّة متأخرة؛ فتنصفُ من محاهم الخطو المتسارعُ الممتلئُ يإيحاءات المصلحة والوصاية والتبعية، وقد مات المتنبي أعزل إلا من غلامه وفرسه، .....
..... ولو عاش أيامنا لتبعته الركبان والراجلة، وإذ لم ير مجده في حياته فقد عاشها بعد مماته.
** ليس وحده؛ فكثيرون ماتوا بالصمت، وحين هُزم القائد القرطاجي الكبير هانيبال برقا (المولود عام 247ق.م بعد بضعة وستين عاماً من الانتصارات المدوية) انفض عنه قومه مؤثرين الصلح مع الرومان، فحارب فردا ثم قضى منتحراً.
** علماء دفنوا سرا، أو غُيِّبوا قسرا، ومبدعون قضت عليهم الفاقة والإحباطات واليأس، وربما ندموا أن تميّزوا، ثم استيقظوا من قبورهم بعدما استبدلت بالذاكرةِ الآنيّة ذاكرةُ التاريخ التي تنهزم أمامها عوامل الطمس والتعرية.
** تتكرر نماذجُ الأمس في رموز اليوم؛ لتبدو المفارقةُ الحادة بين النخبويّة والشعبويّة، وتطفو على السطح أسماءٌ أوهمها اللقب والنشب والصخب، وندرك أن طريق الأضواء ناء عن معادلة العطاء الموازي للبقاء.
** هكذا تصنعُ النجوميّة إذا خفَّ حملُها ووزنُها فتستمتع بالجماهير أو تُعوّض بهم، ويمضي الزمن فيواريها، ويبعث من كانوا متوارين في ظلها، وفي العدل بين المؤقت والدائم عزاء لمن آثر العاجلة ومن عمل للآجلة.
(2)
** يجتمع النخبويون لبعض شؤونهم متكئين على الآرائك؛ فينتقدون (الشعبويّة) المنصرفة للمظاهر؛ دون أن يقف ذلك عند لاعبٍ أو مغن أو راقصة أو شاعر متسول، بل يمتد إلى نجوم الخطاب التسطيحي الذي لا يحتاجُ صاحبُه لأكثر من العزف على المشاعر والتلاعب بالألفاظ والتمثيل بأقنعةٍ يألفُها الناس.
** بضائع مزجاةٌ تجد مشترين، وأخرى منتقاة لا تلقى حتى عارضين، وينعى من أهمه الأمر على الأمة احتفاءها بعاثر واختفاءها عن قادر، ويُنظِّرون ليقرءوا مستقبلا غامضاً يسوده التجهيل، ولو أنصفوا لرأوا طبيعة الحياة تنتهج التفضيل، وتبتهج بالتطبيل، وليظل التاريخ بعيداً عن اللعبة لا يأسره تأثر ولا يهتم بالتأثير.
** سيبقى للاعب دوره، وللفنان إنجازه، وللشاعر -إلا المتكسب- حضوره، وللواعظ جمهوره، ووجودهم شرطٌ مجتمعي؛ فقد كانوا أمس، وسيظلُّون غدا، وجماهيرتهم ليست ذنْباً يحسب عليهم، وقد احتفظ نجوم الغرب والشرق بشهرتهم وثروتهم، ولم يجدوا في مجتمعاتهم من يرثي الحال ويتحسر على المآل.
(3)
** يظهر مصطلح (الشعبويّة) في مقام الاتهام أحياناً لتوجهه إلى السريع والسطحي، ما يصادم مفهوم المصطلح في أساسه لامتداده في عمق الجماهير المكوّن الرئيس لسلطات العادة والأعراف والأحلام والآلام، وهي ما يخلق اليوم وقد يقود إلى الغد.
** وتبدو الممارسةُ الفئويّة التي يختطُّها النخبويون في محاولة اللمز والهمز من نجاحاتٍ شعبيّة ضمن التكوين المجتمعي العريض بأطيافه وآفاقه التي تضم شاعر الناقة مثلما خبير التقنية، وتستوعب المفكر كما الممثل، وتدرك أن لكلٍ وظيفته، وأن بإمكاننا تحقيق شروط النهضة دون أن نبكي على انصراف الناس عن الثقافة الجادة أو التفاتهم إلى الملهيات العابرة، أو نقارن بين ثروة لاعب قدم وحامل قلم، أو نتألم لأن كتاباً خفيف القيمة باع مئات الآلاف وطبع عدداً من الطبعات، بينما لا يتجاوز توزيع الكتب الفكرية العميقة بضعة آلاف معظمها في الإهداءات.
** لا تناقض ولا تعارض؛ ولعل الخطاب المباشر الذي يأسى لهذا التردي يلتفتُ إلى معالجة الخطاب الثقافي والديني والاجتماعي الذي يتوافر له منابرُ ومرتادون دون أن يستطيع اختراق مرحلة السكون الذي امتد قروناً.
** وتكفي خطبة الجمعة التي يحضرها مئات الملايين -على امتداد الأرض- دليلاً على تضاؤل تأثير الخطاب الوعظي من جانب والتحريضي من جانب آخر، كما أن المؤتمرات والمنتديات ووسائط الإعلام تقدم -على مدى الساعة- خطاباً نخبوياً مقابلاً للخطاب الوعظي والتحريضي، ولم تستطع كلها خلق التغيير المأمول.
** نتجه إلى الحلقة الأضعف؛ فنتهم بعشوائية حينا، وانتقائية حينا، ونغفل عن أن (وكالة ناسا) لم تضْرها نجوميةُ (برتني)، ولم تقف معامل الأبحاث في ال(كالتك) لأن (توم كروز) يسكن في قصر قريب منها.
(4)
** نعايش فوضى المصطلح، وفي الوقت نفسه ندعي العلمية والموضوعيّة، وقد دخلنا في أنفاقٍ مظلمة طويلة بسبب توجيه المصطلحات وفق الأدلجة؛ ما أوهم العامة، وفرّق الخاصة، ولم تبدُ -بعد- نهاية النفق.
** وفي النخبوية والشعبوية وهمُ تميُّز وشبهة تحيُّز؛ إذ الشعبُ هم المستقى الذي يرد ويصدر منه النخب، وادعاء التفاضل خلل يصلحهُ الإيمان بالتكامل، والطموح إلى جعل الناس كلِّهم مؤمنين يصطدم بمشيئة الله التي لم ترد ذلك؛ فكيف بنا حين يُبحث عن إجماع على أن (ناقة الفراعنة) و(أهداف ياسر) و(شخابيط نانسي) ميادين للبراءة والتندر.
** سنختلف مع من يُلبس التصفيق رداءً علمياً مثلما صنعت (استبانة زغبي) حول شعبية الأندية؛ فهنا اختراق فاضح لأسس الأبحاث الميدانية وقياس الرأي العام، وبحلّ مشكلة هذا التداخل تستطيع (النخب) المشاركة مع (العامة) للانتقال من الخلط الانطباعي إلى القراءة المنهجية، وفي هذا المجال يتجاور الطرفان ويتحاوران؛ فيُمدُّ أحدُهما بالنور ويسهم ثانيهما في التنوير.
** لن تتحول الأمة -ولو بذلنا- إلى منتجين ومخترعين ومفكرين، ولن يستطيع هؤلاء -ولو مُوِّلوا- أن ينافسوا ذوي الأرصدة المتورمة؛ وسيبقى قدر أصحاب النهى النابهة أن يأكلوا الطعام ويمشوا في الأسواق دون أن يحتاجوا -في تحركاتهم- لمواكب أو يلجؤوا إلى حراسات.
(5)
** كان (الآغا) مسترخياً يُطلُّ على القرية، مستمتعاً بملذات الحياة، وطاب له - حينها- أن يبدد المنغصات بتذكر ما تحت يديه وعينيه، وقال (ليكوفريسي) في رواية (المسيح يصلب من جديد ) لكاتبها اليوناني صاحب الرواية الذائعة عن (زوربا): نيكوس كازانتزاكي.:
* كل ما خلقه الله كامل، هذا العالم نجاح حقيقي، هل أنت جائع ؟ إليك الخبز واللحم المفروم وطبق الأرز، هل أنت عطشان ؟ إليك أكسير الشباب، هل أنت نعسان؟ الله خلق النوم ولا شيء يوزايه عندما تكون وسنا،، وإذا غضبت فدونك السوط ومؤخرات الرعيّة، وإذا اكتأبت فهنا الغناء، وأخيراً: إذا أردت أن تنسى كل هموم هذا العالم ومنغصاته فقد خلق الله (يوسوفاكي) - الذي يغني له:( أمان أمان)-.
** لخص هذا الآغا الحياة من وجهة نظره، ولو استفتي ملايين البشر لوافقوه عليها؛ ليبقى آخرون مؤمنين بأن فيها قيما، ولها مبادئ، ولأجلها تتسع الهوامش وتضيق، وتكتب المتون وتمحى، ويعيش الناس ويفنون، ويبقى في الآفاق ملايين النجوم تلوح وتختفي، لكن أرقاماً صغيرة من النجوم تظل مشعةً أبد الدهر.
* الحياة مسرح وممثلون.
E:Mail:IBRTURKIA@Hotmail.com