يقول المثل (في التأني السلامة وفي العجلة الندامة).
نعم. هذا صحيح غالباً، خاصة لو كنت تقود سيارة، أو فريقاً علاجياً في مستشفى. فالعجلة بالتأكيد من الشيطان إلا في أعمال الخير والبرّ (خير البرّ عاجله).
أعتقد أن التريّث أحياناً في إعطاء الأمور نتائجها النهائية له فوائده الكثيرة خاصة في الممارسة الطبية، ولو أدّى ذلك إلى صرف الجهد والوقت من الطبيب ساعات طوال يدقق في الكتب والمراجع الطبية بتشخيص يتوافق مع شكوى مريضه. فإعطاء التشخيص جزافاً وسريعاً قد يؤدي إلى نتائج سلبية لا تحمد عقباها.
لقد علّمتني الحياة أن الاستعجال، إنما يعرقل ويعطّل أكثر من أن يسهّل.
ففي الممارسة الطبية التي يتطلب فيها التّأني حالات كثيرة يكون فيها الطبيب على عجل مما قد يعرّض مريضه للخطر، وهذا بلا شك يؤثر على سمعة الطبيب ومستقبله، لأن الطّبيب هنا لم يستوفِ شروط الفحص ووقته اللازم.
وقد يكون الطبيب على موعد في نهاية العيادة ويرغب في التخلص من أهل مزعجين حضروا متأخرين ساعة أو أكثر عن موعدهم، وأخذوا يقفون فوق رأس الطبيب ولا يقصّرون في التعليقات الجارحة أحياناً، أو في إبداء الاستياء من الممرضة أو موظف الاستقبال أو غرفة الفحص أو حتى من مواقف السيارات.
وقد لا يخلو الطبيب نفسه من ذلك التجريح مما يخلق ارتباكاً يجبر معه الطبيب التخلص من الموقف بأسرع وقت. وفي كل الأحوال لا يهمّ المرضى ولا المراجعين إن كان الطبيب متعباً أو منهكاً بعد ساعات العمل الطويل.
ولن أخبركم كم مرة ألغيت موعداً على العشاء مثلاً، أو أخلفت موعداً مع زوجتي وأولادي في عطلة نهاية الأسبوع بعد عهود عدة قطعتها على نفسي بأن أقضي بعضاً من الوقت معهم.
وكم انتظروني دقائق طويلة خلف باب البيت ظناً منهم أنني في الطريق إليهم للذهاب لتناول العشاء معهم خارج المنزل، ثم عادوا أدراجهم إلى المنزل مستاءين ضجرين من وعودي المتكررة لأنني كنت مشغولاً مع المرضى.
وكم وجدت نفسي مضطراً حتى لإغلاق الجوال كي لا يؤثر الأمر في صرف تفكيري عن شكوى مرضاي الكرام في العيادة. ثم أعود إلى البيت منهكاً لتستقبلني الزوجة والأولاد بتأفف شديد لتأخري في العيادة.
إن الطب واحدة من المهن غير المرتبطة بموعد أو وقت، وكل دقائقها هي ملك للمرضى، ولا أجد بُدّاً إن كنت متعباً إلا أن آخذ نفساً عميقاً أو قسطاً من الراحة لبضع دقائق.
فالتضحية المخلصة أراها بإعطاء كل مريضٍ الوقت اللازم ولو كان ذلك سيحصد المشاكل مع الأهل والزوجة والأصدقاء.
فمن كان صديقاً للطبيب عليه أن يحتمل كل شيء مثلما يحتمل الطبيب المصاعب والمتاعب دون أن يتأفّف أو يتضجّر. كثير من الناس يوقظون الطبيب في أحلى ساعات نومه وفي أصعب الظروف من أجل سؤال أو استفسار أقلق نومهم!.
وإن كان الوقت يقاس بالمال، وأغلب الناس اليوم يسيرون في هذه الطريق. يبقى الطبيب أقلّهم تفكيراً في هذه الناحية، أو على الأقل يجب أن يكون كذلك.
قد يقول قائل: إن مهنة الطب إنسانية تحتّم على الطبيب أن يتحمل ويتحمل... والواقع أن الطبيب يتحمل الكثير من المتاعب والمصاعب والمخاطر.
وهنا أريد أن أذكر الآخرين أنّ (الإنسانية) ليست وقفاً على الطبيب بل يجب أن نراها في مجالات الحياة كافة. عند المهندس والصيدلاني والتاجر ورجل الأعمال وحتى العامل... أم أنّ (الإنسانية) مقتصرة على الأطباء فقط دون أن يراعي أحد إنسانيتهم!.
ومع ذلك فإنني أرى أن التوفيق من الله، ثم راحة الضمير، ودعاء المريض هم أكبر ثمن للتعب يجنيه الطبيب.
وحينما يغيب التقدير ممن حولي فليس أحلى من راحة الضمير وتوفيق الخالق رب العالمين.
إن التأني في تصرفات الطبيب مطلوب دوماً، ولو كان الأمر على حساب وقته الثمين.
لكنّني أذكّر هنا أن الاستعجال وأخذ القرار الحكيم والحازم ضروري في حالات كثيرة تتوقف عليها حالة المريض.
لهذا أرى أنه لا يوجد في الحياة خطأٌ مطلق، ولا صواب مطلق، لكنني أرى - وبكل تأكيد - أن الأطباء وفي كل يوم يسجّلون حالات ومواقف تندرج تحت مبدأ (الإنسانية) ليس لها حدود.