ينظر إلى المؤسسات التربوية في مجتمعات اليوم كإحدى أهم المؤسسات الاجتماعية التي تحمي هذه المجتمعات من الفقر والجهل والتعصب ونبذ الآخر، ورغم هذه الحقيقة البسيطة نجد أن كلاً منا يصارع حتى على مستواه الفردي للحصول على تعليم جيد. ريما ابنتي تدرس في إحدى المدارس السعودية الخاصة في الصف الأول متوسط. أعتقد أن قرار إلحاقها في أي من المدارس في مدينة الرياض كان قراراً صعباً جداً....
الخيارات كانت محدودة ضمن نطاق الإشراف الحكومي وبقي عليّ أن أختار ما بين القليل المتاح.
ريما في النهاية كانت محظوظة كونها في مدرسة خاصة صغيرة ولطيفة ومتميزة تربوياً مقارنة بغيرها، لكنها بلا شك غير قابلة للمقارنة مع مدارس العالم المتقدم، فتخيل ما يحدث في المدارس الحكومية لدينا؟
في الوقت الذي لا يمكن للإنسان أن يعيش بدون تعليم جيد ومتقدم يفشل تعليمنا حتى في تعليم طلابه الأبجديات الأساسية للقراءة والكتابة والرياضيات والعلوم بما يدفع العائلات القادرة والغنية لتمكين أبنائها من تحصيل العلم، حيث يعتقد أنها منافذه الحقيقة إما في المدارس الخاصة أو في الخارج في حين يبقى أطفال وشباب العائلات المتوسطة والفقيرة أسرى لواقع تعليمي كسيح عاجز عن مواجهة متطلبات القرن الواحد والعشرين، وهم بالضبط من يدفع ثمن البطالة فيعجزون عن الخروج من دائرة الفقر والحاجة، إذ هم الأقل تأهيلاً بما يحتاجه التعليم العالي، ثم ما يحتاجه سوق العمل من مهارات مثل معرفة اللغة الإنجليزية أو مهارات التعامل مع التكنولوجيا، والنتيجة هو أن نسب التحاقهم بالتعليم العالي هي الأقل أو أنهم يضطرون للالتحاق بمؤسسات عالية تقليدية لا توفر لهم التدرب على المهارات التي يحتاجونها للحصول على عمل ذي دخل يفي باحتياجاتهم فيبقون مضغة للفقر والبطالة، حيث يلحق بهم في دائرة شرسة لا تنتهي.
هؤلاء الطلاب المساكين وحين يلتحقون بالمدرسة يكونون محاصرين بمناهج دراسية تأكدت صلاحيتها مع الزمن وهم مسجونون في يوم دراسي مغلف بمواد معظمها وضع ضمن أيدلوجيات وأجندة كانت هي السائدة خلال العشرين سنة الماضية، بحيث تشربت بقدسية عجيبة تجرّم من يحاول طرحها أو طرح محتواها ونوعها للمناقشة، وكآباء وأمهات حيارى مثلي أسألكم ما الذي سيفعله ابنكم أو تفعله ريما ابنتي حين تجلس في الصف من الساعة السابعة صباحاً وحتى الثانية ظهراً تردد في ملل مواد لا علاقة بها بالواقع الذي ستواجهه حين تنتقل إلى حياتها بحثاً عن عمل أو كمواطنة رشيدة مشاركة في الحياة العامة أو كزوجة وأم في عصر حديث كهذا؟
ما الذي سيجدي ريما حين يزفونها بهذه الدرجات العالية حتى يتحقق مبدأ النقل الآلي دون أن أتمكن من التأكد من درجة إتقانها لمهارات اللغة العربية أو الرياضيات أو العلوم وما هي البدائل المطروحة لي ولكم لاختيار تعليم أفضل؟
يروي الفيلسوف البريطاني الشهير الفريد نورث وايتهيد دور التعليم على أنه:
صانع للمستقبل مما يعني أن التعليم لا بد أن يصبح أولوية وطنية إذا ما رغبنا في مواجهة تحديات هذا القرن المعرفي..
أين نحن من ذلك؟
دعوني أشرككم معي فيما أرى أنه تحديات حقيقة تواجه تعليمنا ضمن شروط القرن الواحد والعشرين
* أولاً: التطور التكنولوجي الهائل: لا يمكن التكهن بما سيطرأ في مجال التغير التكنولوجي وإذا استمرت وتيرة التغير بنفس القدر فسيشهد القرن الواحد والعشرين تغيراً تكنولوجياً يوازي ألف مرة ما عرفه العالم خلال القرن العشرين.
* ثانياً: العولمة وما ستجلبه من تغير في مجالات الاقتصاد والاتصالات والبناء الثقافي والسياسي للأمم
* ثالثاً: انفتاح سوق العمالة العالمي بحسب نظام التجارة العالمي الذي لا يضع حدوداً للتجارة أو سوق العمل ومن ثم فإن المستويات المتوقعة لأي منا حتى يحصل على عمل يضمن له حياة كريمة لن تقل بل يجب أن توازي المعايير العالمية.
* ريتشارد رايلي وزير التربية الأمريكي في عهد بيل كلينتون قال إن العشرة أعمال الأكثر أهمية عام 2010 ليست موجودة الآن كما أن ما ستحتاجه من تكنولوجيا لم يخترع بعد!
* أي منتج إلكتروني ياباني يفقد قيمته تماماً خلال 90 يوماً ليحل محله منتج جديد.
* أي طالب يدرس بالجامعة اليوم سيجد أن نصف ما تعلمه خلال عامه الدراسي يفقد قيمته بنهاية العام!
مدارسنا في مقابل هذه التحديات ما زالت تدرّس بسياسة السبورة والطباشير وسياسة تقديس الكتاب المدرسي الذي لا يستطيع المعلم ليس الإضافة إليه بل حتى تقديم بعض أجزائه على بعض حتى لو بدا ذلك منطقياً من حيث تقديم المادة العلمية لتكون منطقية ومتسلسلة، كما أن المواد هي ذاتها منذ وعيناها تقدم منفصلة عن سلسلة المعرفة العامة التي يجب أن تربط بها لتعني شيئاً للمتلقي فقواعد اللغة العربية تدرس كقواعد دون أن تتمكن الطالبة من استخدامها في المحادثة أو كتابة رسالة إلى صديقة فهذه ليست من الخبرات التي تمر بها في الفصل والرياضيات يتم حفظ قواعدها لأداء مسائل الامتحان وليس للاستخدام ومنطقة الأشياء وتعلم أساليب التفكير العلمية ومعظم المعلمات ينتظرن بفارغ الصبر أن تدق الساعة الحادية عشرة والنصف ظهراً لينطلقن إلى بيوتهن حيث تعيش المسؤوليات الحقيقية لهن كزوجات وأمهات وليس لهن أن يقلقن بشأن هذا العمل البائت فالوظيفة حكومية ولا يمكن لأحد أن يفصلهن سواء التحقن بهذه الدورة أو تحججن بأي عذر لرفضها فالرواتب هي هي والزيادة السنوية ستحصل بغض النظر عن التقارير السنوية!
وتبقى البيروقراطية الإدارية الهائلة والفقر المدقع للبيئة المدرسية وضيق مجال الحركة أمام الإدارات المدرسية وتدخل أقطاب عديدة لا علاقة لها بالتربية والتعليم بكل قرارات الوزارة لتلقي بظلال كثيفة على مدارس اليوم بحيث يجب أن نضرب رؤوسنا بالجدار ونصرخ: هل حقاً بجب أن نستسلم لكل هذا؟
لا أعتقد.. يجب أن نجاهد كل في مقعده وكل في مكانه حتى نرغم الوزارة على التحرك وحتى نساعدها على تعلم كيفية التخلص من قبضة هذا الأخطبوط الهائل اللامرئي والذي كبلها خلال العشرين سنة الماضية. المشاركة المجتمعية هي التي يجب أن تقود الاحتجاج الأقوى حتى لا يبقي التعليم الحكومي كما هو عليه وحتى يمتلك التعليم الخاص الحريات التربوية والإدارية التي تمكنه من التميز، الحلول لن تكون سحرية ولا سريعة لكنها ممكنة والنماذج التعليمية منتشرة في كل أنحاء العالم وما علينا إلا أن نختار ما يناسب إمكاناتنا وإمكانات معلمينا ومن يدير هؤلاء المعلمون وحتى ذلك الحين لنعمل مع أبنائنا كل في عشه حتى نعوضهم ما يفقدونه من ذواتهم كل يوم بالاحتباس داخل هذه الصناديق المدرسية!