حلقات برنامج شاعر المليون والهستيريا الجماهيرية التي تصاحبه تحكي فصول النجومية المزورة والفصول الحاضرة الغائبة لعصور الجهل والتخلف والمدح الزائف..
تقاليد وأعراف تم إسقاطها ثم فرضها من جديد على الواقع عبر الدعاية الإعلامية والاحتفالية التلفزيونية الصاخبة، ولم تكتفِ بذلك، فقد أتت معها مرجعية القبيلة وناقتها ومفرداتها وعنصريتها وهمجيتها البغيضة.. وصاحبتها تقاليد الأيام الخوالي في الفخر ب(سلوم) النهب والغزو وأنصر ابن عشيرتك ظالماً أو مظلوماً.. أو احشد له أصوات القبيلة لأنه فقط شاعرها والمخول باسمها لانتزاع (البيرق).. بيرق الرجوع القسري للماضي.
قصة شاعر المليون تروي كيف تم جر المجتمع من خلال وسائل الإعلام الحديثة وتقنية الإنترنت وعصر السرعة والأقمار الصناعية إلى الخلف وزمن الأمية والتخلف في أيام الفرقة والتشرذم، وكيف تم تأجيج عقول النشء الجديد بالعصبية القبلية (دعوها إنها منتنة) في وقت نتطلع فيه إلى تجاوز الماضي إلى حيث مجتمع المدنية وعصور الابتكار والإبداع.. صوت القبيلة الطاغي في هذه المسابقة منع الشعراء الحضر وغير المنتسبين لكيان القبيلة السياسي من المشاركة فيه، فالغرض لم يكن فنياً كما تم التقديم له، فقد ظهر سياسياً وعنصرياً وقبلياً لا يكترث بأي نبرة إبداعية وإن كانت في الشعر الشعبي.
لا يمكن بأي حال مقارنة ما يحدث في الرياضة من تعصب بتلك التي تجري على ساحة القبيلة، فالرياضة أيضا تحفل بالتعصب والهستيريا لكنها عصبية هلامية لا تعترف بمنطق الجغرافيا أو العنصر أو اللون، فالكل من مختلف فئات المجتمع تجدهم يجتمعون -مثلاً- على تشجيع نادي رياضي واحد، بينما اعتمدت ظاهرة مسابقات الشعر الشعبي وجوائزه المادية على تحدي القبيلة ونصرتها ضد القبيلة الأخرى.
وهكذا من المفارقة أن الاحتفال بفوز القطري التميمي من المفترض أن يكون في نجد موطن تميم التاريخي، وقد يحدث ذلك.. فالقبيلة تجاوزت ببراعة في هذه المسابقة الحدود السياسية ومفهوم الوطنية الحديث.. ألا يعد هذا انتصارا غير مسبوق للقبيلة على مفهوم الوطن؟!.. حدث هذا بسبب تسابق بعض القنوات العربية على الربح بأي ثمن، وإن كان عملاً مضاداً لمفهوم الوطنية الحديث.
مر على المجتمع مؤخراً لقاء المخترعين السعوديين مرور الكرام، ولم تُقرع له طبول القنوات الإعلامية ولم تُجند له وسائل الاتصال، وكانت تغطية الإعلام له خجولة، ولم تكن المتابعة على قدر سمو ورفعة هذا الحدث الحضاري.. لم تصاحبه احتفالية كتلك التي تحدث سنوياً لمسابقات الإبل والشعر الشعبي وغيرها من مسابقات الفن الرديء، بالرغم من أهمية هذا اللقاء الشديد في وطن كانت تقاليده لوقت قريب تحتقر العمل اليدوي والمهن والحِرف، نحن في أمس الحاجة إلى الاستثمار في هذا الاتجاه، ونتطلع إلى انتشار مثل هذه الثقافة وأن تحظى باهتمام المجتمع، وإلى أن نجعل منها حدثاً إعلامياً ملفتاً للجماهير.
ماذا لو حدث وتمت تغطية لقاء المخترعين السعوديين في مسابقة على غرار شاعر المليون، وتمت دعوة الجماهير للمشاركة في تقييم أفضل اختراع وأحدث ابتكار في برنامج أسبوعي يتم فيه عرض الابتكارات والاختراعات الوطنية الجديدة أمام لجنة من العلماء ورجال الأعمال، ووضع مليون ريال جائزة للابتكار الذي ينال التقييم الأعلى والأصوات الأكثر.. بالتأكيد سيكون تأثيره إيجابياً على عدد المخترعين في العام الذي يليه، وسيدفع بالآلاف إلى حقول الابتكار وبذل الجهد في البحث عن الأفكار الجديدة، وسيساعد في تغيير اتجاهات التفكير في المجتمع نحو الأمام بدلاً من الاستثمار في ماضي الظاهرة الصوتية والمدح المتكلف، ووضع الكلام في غير محله.
كذلك ستطل هذه النافذة الحضارية على المجتمع بكل ما تحمله من إيجابيات وقيم حضارية لا يمكن حصرها في هذه العجالة، وستبرز مفهوماً جديداً للنجومية الحقيقية وستثقف رجال الأعمال في كيفية وأهمية استغلال الابتكارات الجديدة اقتصادياً.. وعندها ربما ندرك أن المشروعات العظيمة قد تنشأ أحياناً من أفكار صغيرة.
الأفكار الجديدة والإبداع والابتكار فقط هو الذي ينقل المجتمع والوطن إلى مرحلة أكثر تطوراً، بينما لا يحمل الرضوخ وإعادة اجترار الأفكار القديمة والحركة إلى الخلف إلا سلبيات وصراعات الأمس، فهذه الأفكار التي سادت في مرحلة التشرذم انتهى مفعولها في اتجاه حركة الوطن التاريخية إلى الأمام، ومن المفترض أن دورها انتهى أو توارى منذ تم قبول فكرة الوطن كأرض التعايش على مبادئ الحقوق والمساواة للجميع.