تابع السعوديون وغيرهم عبر وسائل الاتصال المختلفة تفاصيل وأسباب ومبررات الخلاف الفقهي بين علماء المملكة حول مسألة حكم السعي في المسعى الجديد، وأبدى العلماء مواقفهم الشرعية إزاء المسألة..
وقد عرضت جريدتنا الغراء (جريدة الجزيرة) كافة الآراء الفقهية والدراسات العلمية المتصلة بهذا الموضوع من خلال تخصيصها عدة صفحات طوال الأسابيع الماضية لهذا الغرض؛ ما أسهم في إزالة الغموض حول هذه المسألة لدى عامة الناس، وأوضحت صحة السعي في المسعى الجديد.
ومع أننا نتمنى دوماً، وعلى كل الأصعدة، أن تكون كلمة علمائنا ومواقفهم الشرعية متقاربة وموحدة وموجهة في المسار ذاته إلا أن طبيعة الحياة المعاصرة بكافة تجلياتها وتعقيداتها وتشعباتها تؤدي أحياناً - كما في موضوع المسعى الجديد - إلى ظهور حالة من الاختلاف الفقهي الذي لا يقدح مطلقاً في مكانة أي من الفريقين، ولا يؤدي بتاتاً إلى ضعف العلاقة بين أنصار القولين..
وهذا الخلاف الفقهي - الذي قد يرى البعض فيه مفاسد وسلبيات - حمل في طياته جملة من المصالح والمكاسب والمصالح الشرعية المعتبرة التي لم تكن لتتحقق أو تتقوى بدون وجود مثل هذا الخلاف الفقهي العابر.
فأول هذه المكاسب هو تأكيد استقلالية المواقف الشرعية والعلمية لعلماء المملكة؛ فقد برهن الانقسام الفقهي لكبار العلماء في المملكة حول هذه المسألة -أياً كان موقفهم - على تجردهم الكامل عند النظر للمسائل الشرعية المعاصرة.. والتزامهم العميق والثابت بما يؤدي إليه اجتهادهم الشرعي في النوازل بغض النظر عن مدى تطابق مواقفهم مع بقية إخوانهم من العلماء..
وأظهرت هذه القضية أننا ننعم بفضل الله بكوكبة من العلماء هي أهل للنظر والاجتهاد والأهلية لإصدار الحكم الشرعي في النازلة المعاصرة، وهم بذلك نحسبهم مجتهدين مخلصين - والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحداً -.
هذه المواقف المستقلة (مبيحة للسعي في المسعى الجديد كانت أو ناهية عنه) تقوي مكانة العالم الشرعي لدى عامة الناس، وتؤكد لديهم تجرده للحق واتباعه للدليل، وترد بكل قوة على كافة الشبه التي قد يطلقها المتطرفون في حق العلماء.
وإذا كان الخلاف الفقهي بين علماء المملكة حيال المسائل المعاصرة وبعض المسائل التعبدية قائماً ومبثوثاً ومعروفاً إلا أنه - حسب علمي - لم يأخذ شكلاً بهذه الحدة والتباين من قبل، وقوة الخلاف هذه المرة وعمقه بين العلماء في هذه المسألة أسهم في تدريب المتلقين - عملياً - على التعامل الصحيح مع الخلاف الفقهي، فرأيناهم يعترفون بوجود الخلاف ويقبلون به ويحترمون أطرافه ويأخذون برأي العالم الذي يرونه أتقى لله وأقرب للدليل.. وبالتالي بات أفراد المجتمع أقرب فكرياً من ذي قبل لتفهم التعددية الفقهية، وأقدر على التعامل معها، خاصة أن الخلاف الفقهي نابع من داخل بلادنا، وأطرافه كلهم علماء أجلاء لهم تاريخهم الفقهي والعلمي الذي يشهد لهم ويعزز ديانتهم وأمانتهم عند الناس.. ومع ذلك هاهم يختلفون ويعلموننا كيف نتعامل مع هذا الخلاف بكل أريحية وسلامة صدر، وينهوننا أن نعنف أو ننكر على صاحب الرأي المخالف ما دام متبعاً لفتوى عالم جليل معتبر..
ورغم أن العلماء كانوا منذ عقود يرددون أصول وآداب التعامل مع اختلاف العلماء، ويعلمونها لطلابهم، ويبثونها في نتاجهم العلمي والدعوي، إلا أنهم هذه المرة مارسوها عملياً، فكانت الرسالة أبلغ وأصدق. ولمس العلماء بأنفسهم مكاسب التعددية الفقهية وفق الأصول المتفق عليها بينهم، وتعاملوا مع سلبياتها غير المتوقعة بكل حكمة، وامتلكوا مزيداً من المعرفة والخبرة والدراية بطرق توظيفها بشكل إيجابي مستقبلاً.
لقد أثبتت هذه القضية - فيما أثبتت - مدى الحاجة الماسة لتطوير كافة المؤسسات البحثية المتصلة بالإفتاء والدراسات الشرعية في المملكة؛ إذ إن الطرفين (المجيز للسعي والمانع منه) احتاجوا كأفراد إلى وقت طويل ومراجعات دقيقة لكتب الفقه والتاريخ والعمارة الإسلامية، وتبنوا (في بعض الحالات) آراء ومواقف ضعيفة وغير مؤصلة بدرجة كافية من الناحية العلمية التوثيقية؛ بسبب افتقارهم لجهود المراكز العلمية البحثية المتصلة بهم والقادرة على إمدادهم بالبحوث والدراسات التي تساعدهم في تصور المسألة بشكل كامل قبل إصدار الحكم عليها..
ومع يقيني التام بأن العلماء استفرغوا وسعهم في النظر والبحث والمساءلة قبل تبني مواقفهم، ومع أني قريب ومطلع على جهود الباحثين في المؤسسات الدينية وملم ببعض نتائجهم المباركة في هذا الإطار.. إلا أني أشعر أن ثمة فراغاً متصلاً بمؤسسات البحث العلمي الشرعي يتم تسديده بالجهود الفردية لبعض الباحثين وكبار طلاب العلم لدى العلماء.. غير أن ما أتمناه هو تحويل هذا الجهد الفردي إلى هيئات استشارية متفرغة تضم نخباً من الباحثين الشرعيين المتفرغين والمؤهلين القادرين على بحث القضايا المعاصرة المهمة، ومن ثم الحوار والمناقشة وتبادل الرأي مع العالِم حول الموضوع محل الاجتهاد، ومناقشة أبعاد الفتوى ومضامينها وتأثيراتها المحتملة على واقع الناس؛ حتى يصدر الرأي بعد تمحيص ومدارسة لجميع جوانبه.
ومهما اختلفت وتباينت المواقف الفقهية لعلمائنا إزاء هذه المسألة الفقهية الفرعية الصغيرة.. فإن الجميع مطالبون بتأكيد المكانة السامية لكافة العلماء وإبرازهم للمجتمع باعتبارهم يشكلون المرجعية العلمية المعتبرة في كافة القضايا الكبرى، وأنهم الملاذ للناس عند بحثهم عن التوجيه الشرعي لمسائل حياتهم المعاصرة..
إنَّ السعي لجمع الكلمة ورأب الصدع وتوضيح كيفية التعايش والتعامل مع الخلاف الفقهي.. أمر مرغوب فيه عند الفريقين، وكلهم يجيزونه ويدعون له، وعلى كل قادر ومهتم أن يبذل جهده في تحقيق ذلك.
مدير تحرير مجلة الدعوة
mhoshan2000@hotmail.com