ما زالت أصداء (جريمة الرسوم الدانمركية) المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، وفيلم (الفتنة الهولندية) القذرة تملأ الآفاق العالمية وتزاحم الأخبار اليومية، وتدفع بمزيد من ردود الأفعال الإسلامية، التي تباينت أطيافها بين (المتشنجة) بتهديدات انتقام، و(المتفلتة) بتصرفات شغب وأعمال عنف، و(المتعقلة) التي تدعو إلى ضبط النفس والرد بحكمة،
من خلال التعبير الرافض عبر الطرق السلمية والرشيدة، قد يفضي إلى تأييد دولي يمهد الأرضية لإصدار قانون يجرم انتهاك المقدسات والإساءة للأديان، في مقابل (المتجاهلة)، أي التي ترى أن (تجاهل) المسيئين والمعتدين على مقدسات المسلمين ورموزهم الخالدة بمقاطعة كل الأخبار الخاصة بتهجمهم على الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام هو أبلغ رد في معالجة القضية أو الجريمة المرتكبة، لأن التشهير الإعلامي بأولئك المعتدين يحيلهم من (نكرات) إلى شخصيات مشهورة ونجوم عالميين.
الردود المتباينة التي تم استعراضها تشير إلى حالة (اضطراب) في المجتمع الإسلامي في تحديد بوصلة (الرد الحضاري) الذي يمنع الآخر من التعدي على ديننا ومقدساتنا مع المحافظة على إبقاء العلاقات الدولية والإنسانية معه دون التنازل عن حقنا، وإن كنت ممن يرفض ردود الأفعال المتشنجة أو المتطرفة من قبل المسلمين، التي تضر بقضيتنا وتخلط أوراقها حتى تضيعها، فإني أود مناقشة فكرة (مقاطعة) أخبار المسيئين و(تجاهل) أفعال المعتدين من متطرفي الغرب، الذين يحاولون إفساد العلاقة الحضارية بين شعوب العالمين الإسلامي والغربي، بالإسائة إلى مقدسات المسلمين ودينهم، لدرايتهم أن الإسلام يمنع المسلم من التعدي على أديان الآخرين وبالذات الأديان السماوية، ومناقشتي هنا سترتكز على أربعة محاور تتعلق بمفهوم حرية التعبير في الغرب، وهوية أولئك المسيئين، ودور الإعلام في القضية، وتبعات التجاهل في محيط المجتمع الغربي، من خلال النقاط التالية :
أولاً.. يجب أن ندرك أن الفكر الليبرالي المهيمن على الحياة الغربية بكل اتجاهاتها، لا يعترف بالمقدس، كونه يراه خاضعاً لمحاكمة العقل ونقده، سواءً عن طريق العلم أو الأدب أو الفن أو غيرها من المجالات، وأن مفهوم الحرية الفكرية مرتبط بالمسؤولية القانونية، التي لا تتحقق إلا من خلال مادة قانونية معتمدة في النظام القضائي الغربي في البلد الأوربي، ولعل القارئ العزيز يتذكر أن المفكر المسلم الفرنسي روجيه جارودي قد قدم للمحاكمة لأنه نشر دراسة تاريخية عن الهولوكست (محرقة اليهود في أفران الغاز النازية)، وقد تتساءل: أين حق (حرية التعبير) في بلد يسمونه بلد النور والحرية ومهد الثورة الفرنسية ؟، الجواب أن القانون الفرنسي (يجرم) التعرض للحادثة التاريخية الهولوكوست، لهذا من الواجب على العالم الإسلامي بأنظمته السياسية وهيئاته الدينية وجهاته الإعلامية ورجال المال والاقتصاد فيه دعم الجاليات المسلمة والمراكز الإسلامية في أوروبا للعمل على إقناع الحكومات الغربية على إصدار قانون (يجرم) الإساءة للأديان والمقدسات.
ثانياً.. ربما تكون فكرة (مقاطعة) وإهمال أخبار المسيئين للإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم، فكرة (منطقية) ومعقولة للقضاء على هذه الأفعال الخبيثة، لو كان (الإعلام الدولي) تحت سيطرة العالم الإسلامي، أو على الأقل أن نكون مؤثرين فيه، غير أن الواقع يشهد في كل تجلياته اليومية على أن (الغرب) هو المسيطر على هذا الإعلام الشامل، والموجه لبوصلة الرأي العام فيه، والمتحكم في إصداراته المتنوعة من صحف ووكالات ومواد تلفزة ووسائط إلكترونية وغيرها، ما يعني أننا في موقف (المتلقي)، ناهيك عن أن الفعل الإجرامي في حق مقدساتنا وديننا يحدث في بلد غربي ويصدر عن إنسان غربي ويبثه إعلام غربي.
ثالثاً.. بالنظر إلى الشخصيات التي أساءت إلى ديننا الحنيف أو قرآننا المجيد أو رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، لا نجدها (شخصيات مغمورة)، أو تهدف إلى أن تصبح نجوماً عالمية، فهل البابا بندكيت السادس الذي ألقى محاضرته عن الإيمان والعقل في سبتمبر 2006م كان مغموراً ؟ وهل النائب البرلماني الهولندي اليميني المتطرف جريت فليدرز منتج فيلم (الفتنة) المسيء للقرآن الكريم يبحث عن الشهرة ؟ أم هو يعبر عن الموقف الفكري لليبرالية الغربية!، وكذلك الحال بالنسبة للنائبة الهولندية من أصل صومالي آيان هيرسي التي اتهمت القرآن باضطهاد الإنسان والمرأة على وجه التحديد، وهي (ليبرالية) أيضاً، أو حتى سلمان رشدي وهو روائي بريطاني معروف من أصل هندي، وقس على ذلك بقية المجرمين.
رابعاً .. لو سلمنا جدلاً بصواب فكرة المقاطعة وعملنا على تجاهل من تهجم على الإسلام، ألا يغري هذا غيرهم ممن لم يأخذ فرصته أو ممن يتحين الوقت المناسب لإعادة دوران العجلة الإعلامية، وجعل الطعن في الإسلام مادة التلفزيون وخبر الصحيفة، ألا يؤدي هذا الموقف المتخاذل إلى استباحة حمى الإسلام لكل ناعق وناهق، وموت الشعور الإسلامي العام إزاء انتهاك المقدسات ؟ يا ترى ما موقف الغرب لو وقع الأمر بالعكس.. بمعنى أن يتحدث أحد المسلمين عن عيد (البوريم) عند اليهود أو يطعن بحقيقة (الهولوكست)؟، هل سيركن الغرب للمقاطعة ؟ قطعاً لا، والدليل أنه أقر قانون (معاداة السامية)، ألم يضع الغرب الإسلام في قفص الاتهام بالإرهاب، لأن أفراداً من المسلمين قاموا بأعمال إرهابية ؟!
إذاً.. أخلص إلى كما أن ردود الأفعال (المتطرفة) تضييع لحقنا في قضية الإسائة لديننا ومقدساتنا، فإن (المقاطعة) سواءً رسمية أو إعلامية هروب من مواجهة القضية، ما يعني أن الحل الواقعي والرشيد يكون في ردود الأفعال المتعقلة التي تعمل عبر المؤسسات الرسمية والهيئات الدينية والجهات الإعلامية من خلال اتجاهين، الأول مخاطبة الغرب والحوار الجاد معهم والضغط عليهم في وقف انتهاك المقدسات، والثاني تعزيز موقف الجاليات المسلمة المنتمية سياسياً للدول الغربية، لإيجاد مواقع نفوذ لها في حكومات بلدانها، خاصة أن كثير من البلدان الغربية تتمتع بأنظمة مرنة وحرية مفتوحة في مجال الإعلام والاقتصاد.
Kanaan999@hotmail.com