المشروع الأمريكي في العراق سجل أعلى درجات الخسارة باعتراف وتأكيد من قبل السواد الأعظم من عقلاء أمريكا، التي تبحث الآن وبجهد لاهث عن الآلية المثلى للانعتاق من أسر المستنقع العراقي والخروج على نحو مشرف يحفظ ماء الوجه الغربي..
... كما أوصت لجنة بيكر- هاملتون، في الآن الذي بدأت دعوات ترتفع وتفصح بصراحة متناهية عن أن المنطق التكتيكي في الصراع يفرض الانسحاب الفوري ومغادرة أرض الرافدين إلى غير رجعة، هذا الشأن اليوم لم يعد سراً يخفى على أحد، بل إنه استحال كقناعة شبه شمولية تنتظم حتى أكثر الشرائح تعاطفاً مع المشروع الامبراطوري، وتفاؤلاً بإنجازات ما وصف على لسانهم يوما ما بمهمة تحرير العراق!.
لقد أثبت العراق وبعد مرور خمس سنوات على الاحتلال أنه متمنع على مشروعات التركيع ومتأبٍ على سلوكيات الإكراه فالقوة الأمريكية لم تعد قادرة على ضبط زمام المشهد والحكومة المركزية وإن كان يبدو لأول وهلة أنها تتحكم في توجيه القوى إلا أنها في الحقيقة ثمة من يتحكم بها ويجبرها على سلوك مسارات محددة وذلك من قبل حركات المقاومة والمليشيات التي تقارب نحو ثمان وعشرين، والقوى السرية الأخرى الممانعة وبشدة للاحتلال الامبريالي؛ ويكفي أن نطلع على آخر تقرير أمريكي عن العراق لنسمع عبارة (إن الأمن لا يزال هشاً) هذا التداعي الأمني النابع من هشاشة الحكومة المركزية هو العنصر الأكثر حضوراً في الأرض العراقية، إذ إن مجرد نشوب أي خلاف بين الحكومة وبين أي جماعة عراقية كافٍ لاستقطاب الانفلات الأمني وتجربة البصرة الأخيرة أوضح مؤشر على ذلك!.
كان كثير من النخب العربية قد خمنوا أن الخسارة هي المصير المتنبأ بتجسده للسياسة الأمريكية في العراق وذلك منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب، وفصلت بإسهاب قراءات نخبوية كثيرة في تجلية المخاطر التي تحف بالعراق الجديد، ووضحت تلك القراءات ما يترتب على احتلال العراق من أبعاد شديدة السلبية ولها إفرازاتها المتناهية السوء على كل الأوضاع في الشرق الأوسط، وثمة شريحة ضئيلة من الكتاب والمحللين العرب هللوا للاحتلال ورأوا فيه نواة لغد مشرق يبدأ بنهاية حزب البعث وسقوط بغداد في 9- ابريل -2003م ولكن بعد قرابة عام واحد من تاريخ الغزو أخذت الصورة تتغير، وبدأ الإعلام الغربي والأمريكي على وجه الخصوص يقلق من مجريات الأحداث على الأرض العراقية وقامت جراء ذلك دعوات كثيرة -باتت هي الأعلى صوتاً فيما بعد- تطالب بالنقد والمراجعة والمطالبة بمحاسبة الضالعين الرئيسيين في هذه الحرب المشؤومة.
الآن الصحافة الأمريكية والأوروبية حافلة بالهجوم اللاذع والنقد العاصف لفكرة الحرب ذاتها ووصل الأمر إلى أن مرشحي الحزب الديمقراطي يخوضان معركتهما داخل الحزب تحت شعار واحد، هو رفض هذه الحرب والخروج مبكراً من العراق. لقد وقع صانعو السياسة الأمريكية في جملة من الأخطاء الفادحة لم يكن بإمكانهم تفاديها من أبرزها: حل الجيش العراقي، والسماح للمخربين بنهب العراق في بداية الاحتلال مما ضاعف من شمولية الفوضى العارمة، والثقة العمياء في زعماء روحيين للشيعة مثل السيستاني، وتحالفهم المطلق مع مقتدى الصدر ثم انقلابهم عليه، وفضيحة أبو غريب، وإخفاق أحمد الشلبي، والتوقع بأن الشعب العراقي سيستقبل الأمريكان بالحفاوة البالغة وفرش الورود.
هذه الأخطاء وغيرها تفسر إلى أي مدى كانت تتخبط الرؤية الأمريكية التي لم تفلح في التقدير الدقيق لأبعاد هذه الحرب الاجتياحية للعراق الصامد ببسالة منقطعة النظير.
Abdalla_2015@hotmail.com