عندما ذهبت للمرة الأولى إلى بريطانيا وتحديداً في أوائل الثمانينات الميلادية، وجدت ما يدهشني وأنا أتجوّل بين الناس في الأسواق والشوارع، إذ كان يمر بجانبنا رجل الأمن أو الشرطة ولا نشعر بذلك، فمظهره الأنيق وعدم تسليحه (إلاّ من عصا وصافرة) يوحي بأنّه من أفراد المجتمع، وإن كان كذلك، ولا علاقة له بما يجري من حوله، ولولا ما يعتمر ما يميِّزه فوق رأسه لحسبته من حكام مباراة تشلسي وليفربول، أو يعمل لإحدى الشركات الخاصة.
فالبرغم من وجود العديد من المخالفات والسرقات والجرائم في ذلك الوقت، شأنها شأن الدول الأخرى، إلاّ أنّ التعامل مع الأشرار والمجرمين كان يتم بطريقة لا توحي بأنّها قمعية أو وحشية، بل ربما على العكس تماماً، إذ نجد أنّ معظم الضحايا هم من رجال الشرطة (رجال ونساء)، ومن هنا كان محور النقاش حول الدهشة الأولى، إذ كان الجدل قائماً آنذاك حول تسليح هؤلاء العاملين في مجال الأمن (هل تسليح عناصر الأمن أو دوريات الشرطة الراجلة أساسي ومطلوب أم لا؟). وهنا انقسم القوم إلى فريقين، فمنهم من ينادي بعدم تسليحهم، بحجة أنّ هناك سيكولوجية قائمة، وهي أنّ هؤلاء ليسوا قمعيين ولا هم يريدون إرهاب الجمهور، وإنّهم مثل باقي الشعب وطالما كانوا مسالمين، فمؤكد أن يقوم الشعب أو الجمهور باحترامهم، ولا بدّ أن يخجل المشاغبون أو الأشرار من القيام بأي أعمال مخلّة، أمّا الطرف الآخر أو الفريق الثاني، فكان ينادي بأهمية التسليح، وأن يكون عنصر الأمن مهيباً ومراقباً لكلِّ من حوله، وربما يجب ترك مسافة فاصلة بينهم وبين من هم في جوارهم من الناس وخصوصاً بعد الضحايا التي حصلت في صفوفهم وخصوصاً من الشرطيات غير المسلحات واللاتي يكونّ فريق عمل مع زملائهنّ من الشرطة الرجال، باعتبار أنّ كل دورية راجلة تكون مؤلّفة من شرطي وشرطية (ربما لإبعاد الملل والرتابة أثناء الدوام بالتجوال وقد تكون فرصة لتذكير بعضهم البعض بأحداث المسلسلات التلفزيونية السائدة في تلك الفترة مثل دالاس، وداينستي وكورونيشين ستريت).
المهم، ظل الجدل دائراً لسنوات عديدة، ولقد تركتهم وعلى هذا الحال حتى عدت لاحقاً إلى بلد الحريات الديموقراطية ولم أر يومها شمساً تشرق أو تغيب، بل رأيت أصدقاءنا من رجال الأمن قد صعب عليهم التحرك والمشي بحركات يسيرة لثقل ما يحملونه من أسلحة وعتاد وسترات ضد الرصاص، وحقيقة الأمر قد لا يلامون على ذلك بحجة أنّ الطرف الآخر من منظومة الشر والإرهاب قد أحكم المراقبة، ولم يعد يخجل أو يحترم أحداً من الجمهور سواء تحت الأرض أو فوق الأرض.
أما هنا في مدينتي، فلقد دهشت مرة أخرى (وليتني لم أدهش) وذلك عندما قرأت في إحدى الصحف المحلية بأنّه قد تم زرع حوالي 1000 من رجال الأمن (بلباس مدني) في عدد من أحياء مدينة الرياض، وذلك للمحافظة على استتباب الأمن والمحافظة على ممتلكات الناس وأرواحهم، وأيّاً كانت المهام، فوجود هذا الكم من الآذان والعيون المرئية وغير المرئية قد أصاب البعض بالذعر (المؤقّت)، فلا يدري أحدنا متى يهمس لزوجته أو ينهر أحد أطفاله فيعاقب بجرم حقوق الإنسان أو حقوق الأطفال. هذا الحكم الأولي الذي صدر مني وربما من غيري بدواعي الخصوصية واحترام الحريات، سرعان ما تغير وتبدّل لاحقاً، ويبدو أننا قد تسرّعنا في أحكامنا هذه، فكمية الإجرام والشر المحدقة بنا والمتربّصة، أعادت صوابنا للمطالبة حتى بزرع (1000) آخر أو ربما ألوف من رجال الأمن الساهرين على حماية أرواحنا وممتلكاتنا، فلقد كنت مراقباً من أجل شنطة سوداء لا تسوى بضعاً من الريالات ظنّها اللصوص صيداً ثميناً فكُسِرت سيارتي وسرقت، والبعض الآخر أعتدي على زوجته وأطفاله والثالث ضُرب وانتُزع منه الهاتف الجوال في وسط النهار، والرابع سُرقت إطارات سيارات (في مرآبه)، والخامس تم تشطيب سيارته بالطلاء، والسادس ينتظر دوره في مخفر الشرطة لبلاغ ربما يخجل أن ينشره للعامة ... والسابع والثامن ... ولا ندري كم هم عدد المتردِّدين على المخافر يومياً؟ واسألوا أهل العلم إن كنتم لا تعلمون!
أمّا أغرب القصص، والتي سمعتها مؤخراً فهي تستحق فعلاً أن تسجّل لمعرفة مَن يراقب مَن في هذه المدينة الوديعة الهانئة والتي تحوّلت بين ليلة وضحاها إلى مضمار للمراقبة بين الخير والشر ضحاياه هم نحن، فقد حدّثني صديقي أنّ فئة من الناس أقل ما يُقال عنهم بأنهم عصبة منظمة ظلّت تراقب فريستها حتى تمكنت منه وأجهزت عليه، فلقد تمّت مراقبته حين دخل يسحب بعضاً من أمواله من مكائن الصرف الآلية، وعندها، وبطريقة ما لا يعلمها إلاّ مخرج العمل، تم اختطافه ومن ثم تقييد يديه وعصب عينيه لإخفائه في مكان ما أيضاً لا يعلمه إلاّ المخرج ومساعده هذه المرة لابتزازه كل مرة لسحب مبلغ من رصيده في البنك يقدَّر بـ 5000 ريال، وطالما كانت الخطة تقتضي الحصول على مبلغ إجمالي يقدَّر بـ 100 ألف ريال، إذاً الحسبة تكون 5000 ريال ضَرْب عدد مرات السحب (20 مرة و 20 يوماً)، وأخيراً تم إطلاق سراحه بعد حجزه في مكان لا يعرفه هو نتيجة حجزه معصوب العينين.
ولا يبدو أنّ نهاية الحادثة قد كانت سعيدة كما هي الفضائيات الحالمة حولنا، فلا دليل لديه يقدمه للشرطة أو المسؤولين، فلقد كان أعمى البصر والبصيرة (من هول مصيبته التي وقعت في مدينتي) فلم يتعرّف على الجناة ولا على المكان وأفلس الرجل وكان الله في عونه، ولا أدري ماذا أحلّ به ولا أين وصلت به صحته، حفظنا الله من كلِّ مكروه ووفّق الله كلّ الرجال المخلصين الساهرين على أرواحنا وممتلكاتنا، ولا بأس بالمراقبة الحميدة على حساب المراقبة الخبيثة ودمتم بخير.
مهندس استشاري زميل
emadshublaq@yahoo.com