ثمة شكوى عربية تتكرر وتتنامى يعبر عنها الناشطون الحقوقيون والصحفيون والكتاب والأدباء والفنانون بأن ما يصدر من البرلمانات العربية أو مجالس الشورى من وصاية ثقافية وإعلامية وتقييد لحرية الرأي والتعبير أكثر مما يصدر من السلطات الرسمية.
كما نلاحظ في عدد من الدول العربية عبر مصادرة الكتب والنشاطات الثقافية والفنية وتقييد الممارسات الاجتماعية، وإيقاف الكُتاب أو محاكمتهم بتهم هدم الأخلاق والقيم، والمزايدة على الدولة في حماية الأخلاق والدين والوطنية من الانحراف، وتحريض الدولة على أصحاب وجهات النظر المخالفة، بل واتهام الدولة بالتراخي في مواجهة الانفتاح وثقافة التحرر. ويحدث أيضاً أن المطالبين بالوصاية الثقافية والمتشددين في الدفاع عن العادات والتقاليد ينخرطون في الاستقطابات الطائفية أو العشائرية وينمون الولاءات الفرعية على حساب الوطن واستقرار الدولة.
أيضا نلاحظ عند تعرض عمل ثقافي للمصادرة القضائية أو تعرض كاتب للسجن مثلاً، أن تقوم القيادة السياسية بالتدخل للسماح لهذا العمل بالنشر أو إعفاء الكاتب من العقوبة. يحدث هذا التدخل من جانب السلطات الرسمية لأن هذه الممارسات القمعية تضع البلد في مواجهة الرأي العام العالمي أو لأنها تعطل عمل الدولة وأداء الحكومة.. كنَّا اعتدنا أن تقوم البرلمانات أو الجهات القضائية بحماية الحقوق الأساسية للإنسان وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير، ضد جور السلطات، فإذا بنا نرى السلطات تتدخل لإنقاذ بعض هذه الحقوق من استبداد بعض النواب أو القضاة أو أصحاب النفوذ الفكري!
الحجة الأساسية التي ينطلق منها بعض أعضاء البرلمانات هي أنهم نواب الشعب المنتخبين، وبالتالي فهم يملكون شرعية إصدار القوانين. والحجة الأساسية التي ينطلق منها أعضاء مجالس الشورى أو أصحاب النفوذ الفكري هي أنهم يمثلون النخبة المثقفة وأعيان المجتمع، وبالتالي يظنون أن لهم حق الوصاية على العقول غير المثقفة أو ضعاف العقول والنفوس! وبطبيعة الحال فإن حجة بعض القضاة المتشددين أنهم أصحاب الحق الأساسي في إصدار الأحكام. إلا أن تلك الحجج يمكن الرد عليها بحجج أخرى، وهي أن ليس من حق أي من هذه الجهات أن تصادر مبدأ أساسياً من مبادئ حقوق الإنسان ضمنتها الدول داخلياً وعليها الالتزام بها، ولو نظرياً.. وليس من الحق الأخلاقي لأي من هذه الجهات توريط الدولة في النكث بالتزاماتها الدولية تجاه حقوق الإنسان، وليس من حق هذه الجهات تعطيل الأداء الحكومي لتيسير خدمة المجتمع، لأسباب لا تتصل بخدمة المجتمع.
وهنا نقع في إشكالية التناقض بين هذه الحجج ومشروعية كل منها! فإلى من تعطى الأولوية، لحقوق الإنسان أم للمشرعين؟ ومن الذي يعطيها؟ ومن له الحق أو السلطة في تحديد المسموح والممنوع من الأفكار والمعلومات؟ ومن له السلطة في طريقة السيطرة على الأفكار في زمن تفجر المعلومات؟ وهذا يحيلنا للسؤال عن السلطة الذي طرحه المفكر الما بعد حداثي ليوتار: من الذي يقرر ما هي المعرفة؟ مرتبط بالسؤال عن المعرفة: من الذي يعرف ما يجب تقريره؟ والمعرفة تحدد المعايير ومنها حرية التعبير.
لكن إذا كان العلم ضرورياً للحرية، فالآن أصبحت الحرية ضرورية للعلم، حسب ليوتار. أي أن التحرر أصبح مطلباً للعلم، وأصبح ضروريا أن تفتح بنوك المعلومات للجميع، كما يرى ليوتار، لذلك أطلق مقولته: (أن تتكلم فهذا يعني أنك تقاتل).. إنه القتال المعرفي من أجل الحرية والعلم في الزمن الما بعد حداثي واحتكار العلم وخضوعه للبراجماتية الحادة وآليات العولمة الرأسمالية وسيطرة الشركات متعددة الجنسيات، وتراجع دور الدولة الحامية للحريات وللحقوق، حسبما يراها ليوتار.. إنه قتال غير عنيف حتى معنوياً يمارس مقاومات خفيفة كما اقتراحها قبله ميشيل فوكو، ويكتفي بوضع متنفس للحرية العلمية والمعرفية.
وبالعودة لعالمنا العربي الما قبل حداثي والبعيد عن إنتاج العلم المؤثر في العالم، نجد أن ثمة إشكالية ثقافية اجتماعية أخرى تتأثر بما ينتجه العالم من علم ومعرفة وأخلاقيات، ومن ذلك عملية الدمقرطة، ومنها آلية الانتخابات، في مجتمعات تفتقر إلى حرية التعبير على الطريقة الما قبل حداثية.. ففي هذه الآلية يحرم بعض المرشحين من طرح برامجهم الانتخابية أو تحد من نشرها.. وتحرم فئات من المجتمع من إنشاء جمعياتها ومؤسساتها المدنية الحديثة التي تعتبر سنداً اجتماعياً لبرامج المرشحين الحديثة.. ويحرم بعض المفكرين والكُتاب من طرح بعض النظريات الفكرية الجديدة التي توفر أرضية مقْنعة لبعض برامج المرشحين الجديدة.. ويحرم الناخبون من سلامة اطلاعهم على البرامج الانتخابية.. ويحرم بعض الفائزين في الانتخابات من التعبير الكامل عن وجهة نظرهم.. ففي ظل وضعية من الاستبداد باسم الوطن أو الدين أو القومية أو العادات والتقاليد أو الإيديولوجيا.. كيف ستجرى الانتخابات؟ ليس المطلوب أن تحل كل هذه الإشكالات كي تجرى الانتخابات، فهذا مطلب مثالي غير واقعي، إنما هنا وصف لما يجري..
ثمة مثل روسي حديث يقول: (ليس مهماً من سيصوت، المهم من سيفرز الأصوات).. فالعبرة بآلية الانتخابات! فإذا أفرغت الانتخابات من هدفها الرئيسي، وإذا خلت آلية الانتخابات من متطلباتها الأساسية بخاصة حرية التعبير وحق إنشاء مؤسسات المجتمع المدني.. فأي معنى تمثيلي لها؟ ومن يمثل الفائزين بها؟ هذا لا يعني أن الانتخابات لا قيمة لها، قدر ما يعني أن ثمة إشكالية واقعية ينبغي مناقشتها لتحديد مدى السلامة الديموقراطية والحقوقية لتمثيل أعضاء البرلمانات العربية لشعوبها.
فالأغلبية الفائزة بالانتخابات أو الأغلبية الحائزة على النفوذ والمسيطرة على الفكر والثقافة في كثير من المجتمعات العربية تعطي نفسها حق أكثر سلطوية من السلطة، حق هو ليس من حقها ولا من صلاحياتها، مستندة على شرعية مطلقات ميتافيزيقية للتحكُّم بالقرارات، دون وعي أو دون اكتراث بالحقوق الإنسانية الأساسية كحقوق الأقلية وحقوق الحريات العامة والخاصة، مستخدمة ما يناسبها من الأقاويل التي تدغدغ العواطف الوطنية أو الدينية أو القومية، ولأنها تدغدغ المشاعر فهي لا تتوانى عن الاستخدام الضمني للنعرات الطائفية أو العشائرية أو المناطقية، زاجة بالبلاد إلى خصومات داخلية ونوازع انفصالية، لا تخفى على أي متبصر لما يحدث في كثير من البلدان العربية المستقرة، ناهيك عما يحدث في البلدان العربية غير المستقرة.
ليس هذا تخويفاً من الديموقراطية، بل دفاعاً عنها، فالتجارب العالمية أثبتت أن الديموقراطية هي إحدى دعائم الاستقرار.. وهذا ليس دعوة للتمهل في الدمقرطة بل دعوة لدعمها عبر توفير الحد الأدنى من متطلباتها الأساسية.. الإصلاحات تسعى إلى إرساء حقوق المواطن الأساسية، وهي: المساواة أمام القانون، العدالة الاجتماعية، الحرية، المشاركة في القرار.. وأهم ما تتمثل فيه هذه المشاركة هو الانتخابات بكافة أشكالها.. لكن الانتخابات ليست مجرد شعار للتطبيل أو غاية في ذاتها بل وسيلة لتحقيق المشاركة، فإذا تمت وهي مفتقرة لأهم أساساتها البنائية أصبحت مشوهة، والتجارب توضح مقدار خطورة هذا التشويه.
alhebib1@yahoo.com