مما لاشك فيه أن لكل مجتمع أمنه الفكري الذي يعد جزءاً لا يتجزأ من الأمن الوطني والقومي العام، وهو بمثابة الدعامة الرئيسية لاستقرار المجتمعات والشعوب واستدامتها في مشاريع التنمية والاندماج والتعايش المشترك، حيث يحميها من فيروسات الاستهداف الفكرية التي متى تسللت إلى مداخل الفكر الوطني عبثت بها، وأحدثت فيها القلاقل والمنغصات والتي عادة ما تكون مبنية - وللأسف الشديد- على رزمة من التبريرات السياسية أو الايدويولوجية أو غيرها من مدخلات القناعة القادمة من خارج المحيط (سمِّها ما شئت).
في عصرنا الحالي تداخلت أوراق المجتمعات وحطمت العولمة البشرية كل حصانات الدول, وأصبحت العقول مستعدة لاستقبال الغث والسمين من الأفكار والطروحات التي تصب في قوالب عدة، منها ماهو ذو مقاصد استغلالية أو استعمارية بأسلوب حديث، ومنها ما أضحى من صرعات العصر وبديهياته؛ كمفاهيم الحرية اللا مسئولة والطامحة دائماً إلى جلد الذات لغرص أو لغير غرض، والتي وصلت إلى حد النقد لمجرد النقد، مما ساهم في إخراج مفهوم النقد من طبعه الأصيل، بالإضافة إلى عدم مراعاتها لخصوصيات التجربة وتمايز طبائع المجتمعات والشعوب.
كما أن الأمن الفكري لا يقتصر على أخذ الحيطة مما هو قادم من الخارج، بل إن الأمر يتطلب حماية الفكر الاجتماعي من بعض آفات الداخل والتي هي نتاج طبيعي ومفهوم لكل مجتمع ودولة، فآفة الإرهاب والتطرف التي تغزو العالم سواء كانت مسيحية أو اسلامية أو يهودية أو ايدويولوجية سياسية، وإن استهدفت خارج المحيط فإنها لا تقوم بذاك الاستهداف إلا بعد أن تكون لها قواعد صلبة في مجتمعاتها ومناطق نشوئها وتكونها ما يعني أن حماية الفكر تتطلب رصد قواعد الدفاع من داخل المحيط وخارجه أيضاً.
لا نجانب جادة الصواب إن قلنا إن حماية الأمن الفكري أضحت حاجة ضرورية يجب أن تولى الاهتمام الكثير من قبل صناع القرار والمعنيين بالأمن المستقبلي، فكلما اجتهدنا في صون وحماية مداخل العقل والفكر من كل ما هو دخيل سرنا واتجهنا إلى مزيد من الاستقرار والانعتاق من براثن الارتباك الاجتماعي والفكري الذي متى ضرب المجتمعات والشعوب أحدث بها الهزات ولسنين طوال.
لا يعني ما تقدم أننا نطالب بنوع من الانغلاق والتقوقع على الذات الذي لا يقل خطورة عما حذرنا منه آنفاً، بل الأمر يتطلب انفتاحاً على الآخر يراعي الخصوصية الثقافية، ولا يسلخ المجتمعات من سياقها الحضاري وشخصيتها الانطباعية.