* إذا ذُكرت (العولمة) سبق إلى الأذهان - عند غير المتخصصين طبعاً - أكثر من مفهوم عام، لعل الشايع منها ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية والتجارية، التي تأخذ طابع الاحتواء والسيطرة والاستحواذ. منظمة التجارة العالمية نموذجاً. ... |
* ظهر مصطلح العولمة (Globalization) في النصف الثاني من القرن العشرين، وذهب البعض إلى أن الممارسة الفعلية لمقتضى هذا المصطلح بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، وقال بعض آخر إن العولمة لم تطبق بمفهومها الشامل لجوانبه الاقتصادية والتجارية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية إلا بعد حرب الخليج الثانية، وقاد هذا السلوك الجديد في تنظيم العلاقات بين الدول والشعوب - يقولون - الولايات المتحدة الأميركية. |
* هناك على ما يبدو فاصل ما بين مصطلح العولمة وفكرتها، بين مفهومها وتطبيقها. المصطلح (Globalization) حديث، لكن الفكرة أسبق، والمفهوم شامل واسع لأكثر من منحى، بينما التطبيق محكوم بظرفه الزماني والمكاني والإنساني، وعلى هذا، يمكن لمثلي أن يتفهم الأبعاد التي رمى إليها باحث شاب زائر إلى الطائف من منطقة القصيم، ومن جامعتها الجديدة، وهو الدكتور (فهد بن مطلق العبري)، الذي حاضر في نادي الطائف الأدبي الثقافي منتصف الأسبوع قبل الفارط، متخذاً نهجاً جديداً في المسألة، ومغايراً لمن سبقه في بحثها، أعني تاريخ العولمة، الذي ظل حتى اليوم بعضاً مما هو ملتبس في شأنها. |
* هل هناك جذور تاريخية للعولمة..؟ بمعنى: هل هي قديمة في تاريخ البشرية..؟ |
* الباحث القادم من القصيم تبنى الإجابة بنعم عن هذا السؤال، فجعل من حملات الإسكندر الأكبر على ديار الشرق، ومن غزوات وحروب الرومان واليونان، دالة على الرغبة المعسكرة والمسيسة لعولمة البلاد المحتلة، وإدخالها في حضارة البلد المنتصر، فالحضارة الرومانية والحضارة اليونانية سعتا إلى تسويق فكرة العولمة التي ابتدعتها بمعناها السياسي والثقافي في مناطق خارج حدودها الجغرافية بالقوة العسكرية ابتداءً، وكان الإسكندر الأكبر يبني المدن في ديار الشرق - مدينة الإسكندرية مثالاً - لقولبة الشعوب وصهرها في فكرة العولمة، من خلال لغة المنتصر، وثقافته، وسلوكه، ونمط حياته. |
* النتيجة التي وصل إليها المحاضر الشاب تثير عندي هذا السؤال: إذا كانت للعولمة جذور تاريخية ضاربة إلى هذا الحد، تذهب بعيداً حتى إلى ما قبل ميلاد المسيح عليه السلام، فكيف نصنف إذن الهجرات العربية القديمة، وتأثيراتها الحضارية على مجتمعات ما بين رومية والجزيرة العربية، ومجتمعات وادي النيل، وشمال إفريقية..؟ هذا قبل ظهور الإسلام. أما بعد ظهور الإسلام، ونشر الدين الجديد عبر الفتوح التي ذهبت شمالاً حتى وسط رومية، وشرقاً بلاد السند وحدود الصين، وغرباً حتى بلاد الأندلس ووسط أوروبا، ونشر العرب المسلمون مع دينهم لغة جديدة، وثقافة جديدة، وسلوكاً حياتياً غير معتاد في البلاد التي احتلوها. هم إذن فرضوا ذلك وأكثر منه، ليس فقط بالتسامح الذي عرف عنهم، ولكن بقوة المنتصر التي هي قاعدة تاريخية سارية. إذن نستطيع القول بأن فكرة العولمة التي مارستها حضارات رومية ويونانية مارستها كذلك حضارات عربية وإسلامية تلت الرومانيين واليونانيين. المحاضر الزائر لم يتطرق إلى هذه الجزئية، ولعله أراد أن يحصر بحثه في بدايات العولمة، وقد لفت نظري ربطه الذكي بين نشوء العولمة وتفكك قوى عظمى، أو انهيار إمبراطوريات كبرى. كأن العولمة تولد من رحم ميتة. في العالم القديم انهارت الإمبراطورية الفارسية على يد الإسكندر المقدوني فظهرت العولمة. وفي التاريخ المعاصر انهار القطب الشرقي بتفكك الاتحاد السوفييتي، وتقدم القطب الغربي الرأسمالي على أنقاضه، ومعه عولمة جديدة معاصرة. يسقط قطب؛ لينتصر آخر، ويولد مع نصره مشروع يحتوي فيه بقية أجزاء العالم. |
* تقول (ويكيبيديا - الموسوعة الحرة) بأن العولمة تعني: جعل الشيء عالمي الانتشار في مداه أو تطبيقه، وهي أيضاً العملية التي تقوم من خلالها المؤسسات، سواء التجارية أو غير التجارية، بتطوير تأثير عالمي، أو ببدء العمل في نطاق عالمي. أيضاً العولمة عملية تحكم وسيطرة، ووضع قوانين وروابط، مع إزاحة أسوار وحواجز محددة بين الدول وبعضها البعض. وواضح من هذا المعنى أنها عملية لها (مميزات وعيوب). يقول الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي عن العولمة: نظام يُمكّن الأقوياء من فرض الدكتاتوريات غير الإنسانية التي تسمح بافتراس المستضعفين بذريعة التبادل الحر وحرية السوق. ويقول (هانس بيترمارتن وهارالد شومان)، صاحبا كتاب (فخ العولمة)، إن العولمة هي عملية الوصول بالبشرية إلى نمط واحد في التغيير والأكل والملبس والعادات والتقاليد. |
وهناك تعريفات كثيرة، يجنح بعضها وخاصة العربي منه، إلى تأثيم العولمة، وحصرها في منطقة من الشك، وإلباسها لبوس المؤامرة. من الأقوال الحادة هذه، قول الدكتور مصطفى: (العولمة مصطلح بدأ لينتهي بتفريغ الوطن من وطنيته وقوميته وانتمائه الديني والاجتماعي والسياسي، بحيث لا يبقى منه إلاّ خادم للقوى الكبرى). والعولمة عند الدكتور محمد عابد الجابري تستهدف ثلاثة كيانات، الدولة والأمة والوطن، ويسميها أيضاً بثقافة الاختراق، اختراق مقدسات الأمم والشعوب في لغاتها ودولها وأوطانها وأديانها. |
* هذا راجع بطبيعة الحال إلى أن الأدوات التي رافقت شيوع عولمة العالم لم تكن كلها بريئة، ولا كلها سلمية ولا عفوية، فالسياسي والعسكري عادة يسبق الاجتماعي والثقافي والتجاري، ولكن هذا أمر ليس بجديد ولا معاصر؛ إنه سلوك صاحب ترويج فكرة العولمة منذ البدء، حملات الإسكندر والرومان واليونان، وما تلاها عبر العصور حتى يوم الناس هذا. |
* إن مجرد الرغبة في تسويق فكرة ثقافية أو مشروع تجاري وسلوك ما هو ضرب من ضروب العولمة.. العرب القدماء مثلاً مارسوا هذه الفكرة مع بعضهم كقبائل، ومع أمم أخرى في غزواتهم خارج جغرافيتهم. القوي يفرض نفسه، والمنتصر يبسط ثقافته ونفوذه.. يقول عمرو بن كلثوم: |
لنا الدنيا ومن أمسى عليها |
ونبطش حين نبطش قادرينا |
ملأنا البر حتى ضاق عنا |
وماء البحر نملؤه سفينا |
إذا بلغ الرضيع لنا فِطاماً |
تخرّ له الجبابر ساجدينا |
وقد علم القبائل من مَعَدّ |
إذا قُبَبٌ بأبطحها بُنِينا |
بأنا المطعمون إذا قدَرنا |
وأنّا المهلكون إذا ابتُلينا |
وأنا المانعون لما أردنا |
وأنا النازلون بحيث شينا |
وأنا التاركون إذا مَخِطنا |
وأنا الآخذون إذا رضينا |
وأنا العاصمون إذا أُطعنا |
وأنا العارمون إذا عُصِينا |
ونشرب إن وردنا الماء صَفْواً |
ويشرب غيرنا كَدَراً وطينا |
* تبدو وكأنها عولمة عدوانية قديمة..! وفي عصرنا هذا ما هو أبشع وأعظم منها؛ فالقوى الغاشمة تستخدم الجو والبر والبحر؛ لفرض ما تريد بالقوة، وإذا ظل العرب في موقف المشكك والمخون في عولمة لا تستأذنهم في دخول بيوتهم، ولا تأبه بما يطلقون عليها من أوصاف وألقاب، فهم وحدهم الخاسر الأكبر. جدية التفكير في فهم الفكرة، ودخول اللعبة، واستخدام أدوات تقلل من السلبيات، وتكثر من الإيجابيات، فكرة جديدة لمقابلة العولمة، والتعاطي معها، وليس مجابهتها؛ لأن المجابهة تتطلب قوة توازي أو تفوق الآخر الذي يرعى هذا المشروع العولمي. |
* هل تصبح العولمة الطريق الأمثل نحو العالمية..؟ عالمية السياسات والاقتصاديات والثقافات الموحدة..؟ |
* ما موقف أولئك الذين ينادون ب(أممية وعالمية الإسلام)، ويحاربون العولمة في الوقت نفسه..؟ |
|