الحمد لله رب العالمين، الذي جعل الحج من أركان الدين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبدالله المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فإنه طلبت مني المديرية العامة لمناسك الحج والعمرة بوزارة الشؤون الدينية بالجمهورية الإندونيسية أن أقوم بإلقاء محاضرة حول الحكم الفقهي في المبيت بمنى في أماكن منى الجديدة، والسعي في المسعى الجديد، ورمي الجمرات عبر طبقات المرمى العالية.
وذلك في ندوة علمية تقيمها المديرية في الفترة 2 - 4 ربيع الثاني 1429هـ الموافق 9 - 11 إبريل 2008م في فندق جراند جايا رايا جيبايونج بوقور جاوه الغربية، إندونيسيا.
وعلما بأن بيان هذه المسألة من الأمور الواجبة على من ينتسب إلى العلم الشرعي، فأرى وجوب تلبية هذا الطلب المشار إليه. ومستعينا بالله عز وجل أكتب هذا البحث سائلا منه تعالى التوفيق في ذلك، إنه سميع قريب مجيب. فأقول:
(1) مدينة منى الجديدة
إن موقع (مدينة منى الجديدة) غير مذكور في كتب الفقه القديمة. ذلك لأن ما يسمى بمدينة منى الجديدة عبارة عن التطور العمراني الذي تشهده حكومة خادم الحرمين الشريفين. فأرى أن أضع أولا معيارا أو تقريرا لما يسمى بالجديدة.
هناك كثير من مدن العالم تتطور إلى شكلها الجديد، مثل مدينة نيو دلهي (New Delhi) ومدينة نيويورك (New York). فمدينة نيودلهي في الهند عبارة عن تطور مدينة دلهي فسميت مدينة دلهي الأولى بمدينة دلهي القديمة، فمدينة نيودلهي في الواقع متصلة بمدينة دلهي. ففي هذه الحالة لمدينة نيودلهي حكم مدينة دلهي.
أما مدينة نيويورك، فهي تختلف اختلافا بينا عن مدينة نيودلهي. فمدينة يورك (York) موجودة في إنكلترا، ومدينة نيويورك موجودة في أمريكا. فمدينة نيويورك ليست عبارة عن تطور مدينة يورك لاختلاف الموقع بينهما.
ونعود الآن إلى الموضوع الذي نحن فيه وهو مدينة منى الجديدة. فأقول: إذا كانت مدينة منى الجديدة هذه عبارة عن تطور مدينة منى القديمة بحيث أنهما واقعتان في موقع واحد غير أن الجديدة قد تكون أجمل وأحسن تنظيما من القديمة، وهما متصلتان، فللجديدة حكم القديمة أو أنهما في حكم واحد.
وبالتالي يجوز المبيت في مدينة منى الجديدة كما يجوز في منى القديمة. وذلك لأن مدينة منى الجديدة تابعة لمدينة منى القديمة. وقالت القاعدة الفقهية: (التابع تابع) أي للتابع حكم المتبوع. وفي مثل هذا توسعة المسجد الحرام بمكة المكرمة وتوسعة المسجد النبوي بالمدينة المنورة.
لا أحد من العلماء ينكر أن أداء الصلاة في مباني الحرمين الشريفين الجديدة له أجر مثل أجر الصلاة في موقعهما القديمة كما كان ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعدم إنكار أحد من العلماء في ذلك عبارة عن إجماعهم على جواز الصلاة في المباني الجديدة من المسجد وحصول الأجر المشار إليه.
ومع ذلك، فالأولى إرجاع هذه المسألة إلى أهل البلد، يعني أهل مدينة منى، لأن المثل العربي يقول: أهل مكة أدرى بشعبها، يعني الأعلم بشؤون مكة المكرمة هو أهل مكة أنفسهم. وكذلك أهل منى، هم أعلم الناس بشؤون مدينة منى بما في ذلك حدودها وآبارها وغير ذلك.
ومفهومه إذا كانت مدينة منى الجديدة منفصلة عن مدينة منى القديمة، فلا يجوز المبيت في منى الجديدة، لأن هذا غير تلك. والله أعلم.
(2) طبقات رمي الجمرات العالية
لا شك أن حكومة خادم الحرمين الشريفين تولي اهتماما بالغا في خدمة ضيوف الرحمن. وقد حدثت عدة مرات حوادث مروعة عند مرمى الجمرات حيث استشهد ألوف من الحجاج بسبب الازدحام عند رمي الجمرات. فبادرت حكومة خادم الحرمين الشريفين ببناء الطبقات عند المرمى لأجل تجنب واقعة مثلها في المستقبل. ولا شك ما بادرته حكومة خادم الحرمين الشريفين من باب السعي لحصول مصالح الحجاج. ولم توجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مباني الجمرات الحالية بما في ذلك النصب والطبقات العالية. فالنصب إنما وضعت لأجل إعلام الحجاج أن موقع رمي الجمرات فيها. ولولا النصب لم يعرف الحجاج مواقع رمي الجمرات.
ولكن من الواجبة معرفته أن النصب ليست هدفا في رمي الجمرات، كما أن الجمرات نفسها ليست هدفا في هذه المناسك. فرمي الجمرات أمر تعبدي، تخليدا لما فعله نبي الله إبراهيم عليه السلام في رمي الشيطان الذي يسوسوه لترك أمر الله تعالى. فرمي الجمرات عبارة عن عبادة رمزية (Symbolism Worship) في رمي ما يوسوس الإنسان في حياته اليومية من وساوس الشيطان. فالحاج عندما يرمي الجمرات لابد من استحضار هذا المعنى، ولا يرمي شيطانا ماديا، لأن الرمي المادي لا ينفعه. لأن الشيطان لا يموت إلى يوم القيامة.
فالحاج إذا رمى الجمرات على هذه الحالة ونوى بذلك الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال (خذوا عني مناسككم)(1) فالرمي وإن كان من الطبقات العالية صحيح ما دام ذلك واقعا في موقع الجمرات التي من أجل تعريفها وضعت النصب.
(3) المسعى الجديد
هذا ومن خدمات حكومة خادم الحرمين الشريفين لراحة الحجاج وأمنهم توسيع المسعى الجديد. ذلك لأن المسعى الحالي ضيق في أيام الحج. فاحتاج ذلك إلى توسيعه حتى يرتاح الحجاج في أداء مناسك السعي.
لكن جاء سؤال من بعض الناس، هل موقع المسعى الجديد لا يخرج من موقع المسعى القديم حتى يصح السعي فيه؟ يبدو أن هذا السؤال قد يوسوس بعض الناس، فيرى عدم صحة السعي في المسعى الجديد. وللمرة الثانية، لابد في مثل هذه الحالة أن نعرف ما رأى أهل مكة المكرمة في هذا المسار أو المسعى الجديد.
قال صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبدالله بن محمد المطلق، عضو كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، ردا على بعض طلبة العلم الذين يتسرعون ويستعجلون في إصدار الفتاوى في قضايا مهمة وكبيرة تهز الأمة بأسرها، مؤكدا أن الاجتهاد الفرادى (الأحادى) لا يجوز لوجود مؤسسات الاجتهاد الجماعي كهيئة كبار العلماء ومجمع الفقه الإسلامي ولجنة الإفتاء. ولأنه لابد في الفتوى من الرجوع إلى رأي الخبراء والمتخصصين.
ونفى فضيلة الشيخ الدكتور عبدالله بن محمد المطلق، وجود شبهة في السعي بالمسعى الجديد، مستعرضا (صكا شرعيا) دونت فيه شهادة ثلاثين رجلا من أهل مكة من كبار السن يثبتون أن المسار الجديد في المسعى لا يخرج عن حيز المسعى في صورته القديمة.
وقال: نحن في دخول شهر ذي الحجة والوقوف بعرفة نكتفي بشاهدين. وهنا ثلاثون شاهدا. فأيهما أهم، السعي أم الوقوف بعرفة؟ وأضاف الشيخ الدكتور عبدالله بن محمد المطلق، قائلا: لابد من وجود قاعدة كبيرة لجبلي الصفا والمروة. فهل يعقل أن تكون القاعدة عشرين مترا فقط؟ إن جبل الرماة في المدينة المنورة وهو أصغر جبل معروف، مساحته تزيد عن ذلك بكثير وإذا ثبت هذا، فأقول إن السعي في المسار الجديد من المسعى لا شبهة في صحته.
الخاتمة والاقتراح
هذا ويطيب لي أن اقترح هنا أنه من المستحسن أن تقوم المديرية العامة لشؤون الحج والعمرة بوزارة الشؤون الدينية الإندونيسية بمراجعة المسؤولين في المملكة العربية السعودية، خاصة هيئة كبار العلماء للتأكد من صحة السعي في هذا المسعى الجديد والمناسك الأخرى في المشاعر المقدسة الجديدة.
سائلا المولى أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه. وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد. والحمد لله رب العالمين.
* نائب رئيس قسم الإفتاء بمجلس العلماء الإندونيسي
(1) صحيح مسلم، باب استحباب رمي الجمرة، 6- 426، سنن أبي داود، باب في رمي الجمار، 5-331