Al Jazirah NewsPaper Friday  11/04/2008 G Issue 12979
الجمعة 05 ربيع الثاني 1429   العدد  12979

العرضة السعودية: الرقصة العربية الشعبية
ابن خميس: إذا غاب الشاعر فهد بن دحيم.. قال الملك عبدالعزيز ائتوني به ولو محمولاً..!
حمود بن عبد العزيز المزيني

 

تُعتبر العرضة من أسمى الفنون الشعبية، لأنها ذات صلة مباشرة بحياة الناس وطباعهم وبيئتهم، والعرضة كما نستدل عليها من مسماها وغرضها هي رقصة الحرب، وهي من الاستعراض أو العرض العسكري، وهذا يتفق مع مسمى العرضة وطبيعتها عندما يستعرض الرجال المسلحون ويصطفون بانتظام أمام القائد ليثبتوا استعدادهم لخوض غمار الحرب، فيتفقدهم القائد، ويوجههم، ويبعث فيهم روح الإخلاص والاعتزاز والحمية لكي ينطلقوا نحو المعركة بثقة في النصر، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعرض أصحابه قبل دخول المعركة، ففي معركة أُحد عسكر المسلمون في موقع الشيخين واستعرضهم صلى الله عليه وسلم ورد من لم يبلغ الخامسة عشرة، ومن ليس على دراية بالقتال، أو مهارة في الرمي، ولا قوة بدنية تتحمل أعباء المعركة، ولقد كان الملك عبدالعزيز - رحمه الله - يستعرض قواته في مكان يتجمع فيه المقاتلون من حاضرة وبادية، ويؤدون العرضة في موقع التجمع ومنه تكون الانطلاقة للحرب، وهناك اتفاق فيما كُتب عن العرضة بأنها من العرض العسكري، والعرضة ذات مسمى واحد معروف في الجزيرة العربية والخليج العربي، إلا أنها قد تتخذ بعض المسميات حسب تعريفات خاصة بقبيلة أو منطقة أو بحسب الألوان التي تُؤدى بها، فتُسمى: الحدوة، والعيالة، والهيدة، والبداوي، والرزيف، والعرضة السيفية.. بالإضافة إلى اسم العرضة النجدية العرضة السعودية.

قال العلاَّمة الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - عن فن العرضة (الرقصة العربية الشعبية): للعرب رقصات متنوعة بحسب تنوع أحوالها، فمنها ما يتعلق بأحوال الفرح كالزواج والأعياد والانتصار، ومنها ما يُقصد به إظهار القوة والشجاعة أمام الأعداء، وإيجاد الحماسة في النفوس لكي تصمد وقت اللقاء، ومن ذلك ما يُسمى بالعرضة المعروفة في المملكة العربية السعودية، وهي رقصة حربية تمتد جذورها إلى أعماق التاريخ القديمة، وأصل التسمية مشتقة من كلمة العرض، وهو الجيش الضخم قال الراجز:

إنّا إذا قُدْنا لجيش عرضا

لم نُبقِ من بغي الأعادي عضَّا

وكانت العادة القديمة عند العرب وغيرهم أن قائد الجيش ورئيس الجند يعرضان جيشهما وجندهما أمامهما للنظر في أحوالهم، وكان الجيش يمر أمام القائد مبدياً كلّ واحد من أفراده قوته وشجاعته، لئلا يُوصف بالضعف أو الجبن، وذلك في حركات قوية، وفي مشية تتلاءم مع إيقاع شعري قد يتمثّل به أحد من الجيش، والتاريخ العربي يروي الكثير من أخبار عرض الجيش بهذه الصفة، فمحمد صلى الله عليه وسلم كان يعرض جيشه عند كل ملاقاة، ولما مرَّ به أحد أفراد جيشه.. وكان يتبختر في مشيته وينشد شعراً يناسب حركته ويقول فيه:

أنا الذي عاهدني خليلي

ونحن بالسَّفْحِ لدى النخيل

أضرب بسيف الله والرسول

قال عليه الصلاة والسلام: (إن هذه لمشية يكرهها الله إلا في مثل هذا الموضع).

وبينما كان الحجّاج يعرض جنده مرّ به فتى وهو يقول: (أنا من قوم لم يكن فيهم جبان)، فأعجب به الحجّاج واستدعاه وسأله عن قبيلته فأخبره أنه من قبيلة (يام) التي لا تزال معروفة في جنوب المملكة.

وقد وصف ابن فضل الله العمري في كتاب (مسالك الأبصار) إحدى العرضات التي وقعت في زمانه، فقد ذكر عن قبيلة زُبَيْد التي لا يزال القسم الأكبر منها مستوطناً في غرب المملكة بين مكة والمدينة أن فرسانها في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) عندما طلب ملك الشام منهم النصرة على التتار أقبل منهم زهاء أربعة آلاف فارس على الخيل المسومة، والجياد من الإبل متقلدين بالسيوف، بأيديهم الرماح كأنهم صقور على صقور، وهم يرقصون بتراقص النجائب، وكانت مغنيتهم - وتُعرف بالحضرمية ولها سمعة طائرة في زمانها - سافرةً من هودجها وهي تغني:

وكنا حسبنَا كلّ بيضاء شحمةً

لياليَ لاقينا جُذَامَ وحِمْيَرَا

ولما لقينا عصبةً تغلبيّة

يقوجون جُرْداً للمنية ضُمّرا

فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه

ببعض أبت عيدانه أن تكسرا

سقيناهم كأساً سقونا بمثلها

ولكنهم كانوا على الموت أصبرا

فأثاروا الحماسة في النفوس وتم الانتصار على التتار.

ويصف الأخطل قبيلة قيس عيلان، التي كانت خارجة على الخليفة الأموي في عهده، أنهم انقادوا فوفدوا على الخليفة فعرضوا أمامه ليظهروا له الطاعة وأنهم شجعان أقوياء فقال:

وقيس عيلان حتى أقبلوا رَقَصاً

فبايعوك جهاراً بعدما كفروا

وقد تطور عرض الجيش حتى إذا كان في عهد دولة المماليك أحدثت وظيفة خاصة تُسمى (عارض الجيش).

ولقد كانت الفتاة العربية تشارك الجيش في رقصاته الحربية لتثير حماسته وتبعث نخوته، فنساء قريش في وقعة أُحُدٍ كُنَّ يضربن بدفوفهن خلف الرجال المحاربين، ويقلن في أهازيجهن:

إن تُقبلوا نُعانِق

ونفرش النَّمارِقْ

أو تُدبروا نُفارق

فراقا غيرِ وامقْ

وقد بقيت هذه العادة عند العرب إلى عهد قريب، فقد ذكر الأستاذ أمين الريحاني في وصفه لإحدى الوقائع في نجد أن النساء كن يتغنين خلف صفوف الجيش، ويقلن:

يا اللي تمنّى حربنا

غَويت يا غاوي الدليل

كمْ واحدٍ من ضَرْبْنا

دمّه على الشلفا يسيل

والعرضة كانت إلى عهد قريب على ثلاثة أقسام:

(1) عرضة الجيش: (الجيش: الإبل النجائب المذللة للركوب)، حيث يقوم المحاربون باختيار نجائب الإبل في اليوم المخصص للعرضة، فيركبونها من مسافة يتمكنون بها من الوصول إلى مكان العرضة، وهي في غاية ما تستطيع من قوة الإغارة (الجري السريع)، فإذا مرّ العارضون على المكان الذي اجتمع فيه الناس صار كل واحد منهم يُلوِّح بسلاحه، ويصرخ بأعلى صوته بنخوته التي يعتز بها كأن يقول: (أنا أخو فلانة)، أو (أنا ابن فلان).. فيجيبه الناس بكلمة (ونِعم ونِعم) تشجيعاً له.

(2) عرضة الخيل: يمتطي الفرسان خيولهم في الوقت المحدد للعرضة، ثم يأتون إلى مكانها متسابقين على خيولهم مُلوحين بسيوفهم وهم يعتزون وينتخون.

(3) العرضة العامة: وهي التي يقوم بها الرجال بعد أن يتهيأوا بأسلحتهم من سيوف أو بنادق ثم يصطفون صفوفاً ويقومون برقصات تلائم إيقاع ما يُلقى على مسامعهم من أهازيج شعرية مثيرة للحماس مثل:

حِنا هل (العَوْجا) مْرَوِّية السِّنين

وإذا كسرنا العظم ماحْدِ خَبرهْ

أي أن العرضة تقوم حركاتها على إيقاعات موسيقية.وللشعر الشعبي في الجزيرة اهتمام بالعرضة حيث قلَّ أن يخلو ديوان شاعر مشهور من قصائد عرضية، أي تختص بالعرضة، هذه الرقصة الشعبية التي أوشكت كل الرقصات القديمة أن تزول من الجزيرة ما عداها.

وقال أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري في كتابه (ديوان الشعر العامي بلهجة أهل نجد): (أما التاريخ للعرضة فليس وراء شيخنا الجاسر متعقب، ولعله يُتاح لي في أحد أسفار هذا الكتاب دراسة أوزان العرضة وألحانها ووصف واقعها، وقد علمت أن شيخنا ابن خميس يجمع الآن أشعار العرضة.

الغناء الحربي في الشعر العامي على نوعين:

أولهما: أغاني الحداء على الخيل، وهو فن بدوي استفادته الحاضرة منهم، وشعراء الأحدية من الحاضرة قليلون.

ثانيهما: أغاني العرضة وأوزانها غير أوزان الحداء، وهي فن حضري بالنسبة للحن والهيئة التي يتم بها الغناء، ولا يكاد البدو يقيمون فن العرضة، وربما لا تجد شيئاً من ألحان العرضة في شعر البادية إلا قليلاً كقصيدة غنيم العارضي، والبادية استفادت العرضة من الحاضرة بلا ريب.

والعرضة التاريخية التي ذكرها الشيخ حمد الجاسر أكثرها من الرجز، وهو بحر الحداء، وفيها بحور أخرى غير الرجز، وفيها رقص ولعب بالسلاح، إلا أننا لسنا على يقين بأن رقصة الحرب عندهم كرقصة الحرب عندنا، وأن غناء الحرب عندهم كغناء الحداء والعرضة عندنا، لأن ألحان العرب ضاعت ولم تدوَّن تدويناً موسيقياً على النوتة، ووجدت إشارات في كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني ما هي إلا إحالات لمعهود في عصوره، وأكبر موسيقار في هذا العصر لا يستطيع استعادة اللحن العربي كما هو في الواقع من خلال تلك الإشارات الطفيفة).

ومن الشواهد على مناسبة العرضة ما ذكره الأستاذ أحمد الشومي: (إذا قرر الملك عبدالعزيز السير إلى الغزو تضرب الطبول في الحارات، إذ كان هناك أناس خصصهم الملك عبدالعزيز يمشون على البيوت والنخيل، وينادون الناس للحضور في المبرز ويسلم لهم بنادق حيث يُقال لهم (هنا مغزى).. فإذا قرروا السير إلى الغزو يضرب الطبل للتجمع في الحارات (كما قلنا)، وإذا اجتمعوا بدأت كل حارة لوحدها بالعرضة النجدية، ويحضرون الشعراء لبث الحماس لدى الناس، ثم يبدأ أهالي الحارات والنخيل بالمسير، وهم يعرضون حيث يتوجه أهالي دخنة ومعكال والمعيقلية والظهيرة والمصانع ومنفوحة وباقي أحياء الرياض ونخيلها، وكذلك أهالي الدرعية يرسل لهم مندوباً يتوجهون للتجمع في المبرز، وبعد تجمع المقاتلين في المبرز واكتمالهم يبدؤون المسير إلى الصفا لمقابلة الملك عبدالعزيز، ثم بعد ذلك التوجه إلى مكان الغزو.. وبعد قفولهم راجعين من غزوهم يعودون إلى رقصة العرضة من جديد للتعبير عن الانتصار، وحينما يأتي البشير بذلك تبدأ العرضات كذلك).

وذكر الأديب عبد الله بن خميس في معرض حديثه عن شاعر عرضة: أنه إذا جد الجد وحزب الأمر ونادى منادي الجمع وقرعت الطبول ولبس السلاح وتجمعوا تمهيداً لأيامهم المعروفة واندلاقاتهم المسعورة تجده هنالك ترمقه الأبصار وتنشد نحوه الأسماع ماذا سوف يهزج به فهد بن دحيم.. وقد غاب مرة مريضاً عن هذا التجمع ففقده القائد الرائد الملك عبدالعزيز فقال: (ائتوني به ولو محمولاً) فجاء يغالب مرضه وهزّ سيفه وأنشد:

نجد شامت لابو تركي واخذها شيخنا

واخمرت عشاقها عقب لطم خشومها

فاهتز الملك عبدالعزيز لها وتناول سيفه وجعل يتثنى بين جنده مفتخراً مزهواً، وزاد الجند حماسة وعرامة واستجابة وفداء

تلك كانت العرضة، يروي واقعها لنا من عاصرها في أوج عهدها وتذوق طعمها الأصلي، ومما يوثّق للعرضة ما كتبه الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه (مع عاهل الجزيرة العربية) يقول: (ومن أحب الرياضات إلى جلالته رقصة الحرب التي يرقصها الإخوان النجديون وهم مقبلون على الميدان، وهي رقصة مهيبة متزنة تثير العزائم وتحيي في النفوس حرارة الإيمان، ويتفق أحياناً أن يستمع جلالته إلى أناشيدها ويرى الفرسان وهم يرقصونها فتهزه الأريحية ويستعيد ذكرى الوقائع والغزوات فينهض من مجلسه ويزحزح عقاله ويتناول السيف وينزل إلى الحلبة مع الفرسان، فترتفع حماستهم حين ينظرون إلى جلالته وسطهم طباقاً فوق طباق).

(يُتبع الجزء الثاني)

للتواصل: المجمعة: ص.ب 82 - الرمز البريدي 11952


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد