Al Jazirah NewsPaper Friday  11/04/2008 G Issue 12979
الجمعة 05 ربيع الثاني 1429   العدد  12979
توسعة المسعى بين الصفا والمروة: نظرة في الواجب والواقع
ليحذر العلماء من إيقاع الفتنة في صفوف الحجاج والمعتمرين بإشاعتهم عدم صحة السعي في الزيادة الجديدة
أ.د. عصام أحمد البشير

الحمد لله رب العالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته على معلم الناس الخير سيدنا محمد بن عبدالله الذي أرسله الله تعالى للناس كافة على فترة من الرسل وانقطاع من الزمن {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (157 سورة الأعراف)، وبعد،،،

فقد اتسع في الآونة الأخيرة حوار لا يزال موصولاً بين أهل العلم على اختلاف مذاهبهم، وتنوع مشاربهم في المملكة العربية السعودية وخارجها حول مشروعية زيادة مسعى الصفا والمروة بين مبيح ومانع، مما أدى إلى تشكيك بعض الحجاج والمعتمرين في سعيهم، وظهرت أقوال من هنا وهناك، وأفتى بعضهم بأنه إذا سعى الحاج أو المعتمر في المسعى الجديد فإنه يكون قد ترك واجباً وعليه دم، بل وصل الأمر ببعض أهل العلم أن ينصحوا من انطلق للعمرة ألا يعتمروا ما لم يفتح المسعى القديم، فأحببت أن أشير إلى جملة من المطالب في هذا الصدد:

أولاً: حرص علماء الأمة وفقهائها على تحقيق المشروعية في التعبد تعظيماً لشعائر الله، وصيانة لقدرها: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (32 سورة الحج)، وهو أمر يؤكد دور العلماء المتعاظم في قضايا الأمة كبيرها وصغيرها.

ثانياً: حرص ولاة الأمر في المملكة - وعلى رأسهم خادم الحرمين - على تحري الموقف الشرعي، وسؤال أهل الذكر، سعياً لتحقيق مرضاة الله وفق مقاصد شرعه الحنيف، وهداية الخلق إلى الحق أمر معهود في سيرتهم، فجزاهم الله خيراً على ما يبذلونه لخدمة دينهم وأمتهم.

ثالثاً: أن شعيرة الحج والعمرة ومناسكهما ليست أموراً تختص بعلماء المملكة وحدها - على جلالة قدرهم وفضلهم وإمامتهم - بل هي مسؤولية علماء الأمة في أقطار المعمورة كافة، ومن الواجب أن يدلي كل منهم بدلوه، ويسوق حجته، ويدفع برأيه فيما يراه راجحاً.. ولعل المجامع الفقهية ذات الطابع الدولي باستيعابها لكثير من أهل الاختصاص والدراية ممن يمثلون مختلف المذاهب الإسلامية المعتبرة عند أهل العلم، ويستوعبون المناطق الجغرافية المتنوعة، يشكلون إحدى أوعية الاجتهاد الجماعي المعاصر الذي ينظر في الأدلة المختلفة، ويوازن بينها وفق مناهج الاستدلال، وقواعد الترجيح، ومدارك النظر المعتبرة عند أهل العلم، ويزاوج الواجب والواقع تحقيقاً للمقاصد الشرعية والمصالح المرعية، دون مصادرة لحق الاجتهاد الفردي أو المؤسسي في أي قطر من الأقطار، وهذا دليل حيوية الأمة وعافيتها، حيث تتكامل الأدوار ولا تتنافر.

رابعاً: ضرورة التفريق بين ما كان قطعي الثبوت والدلالة، أو ما انعقد عليه إجماع صريح متيقن، وبين ما هو من مظنون المسائل، ومنازع الاجتهاد التي يكون الأمر فيها بين صواب وخطأ، وراجح ومرجوح، دون إنكار على المخالف، فالمتفق عليه لا يسع مسلماً رده أو الجدال فيه، والمختلف فيه يسعنا ما وسع السابقين من تقبل رأي الآخر ما دام في الأمر مهيع متسع، ومندوحة وسعة، فالقاعدة المستقرة: (إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة).

خامساً: أن تغير اجتهاد الفقيه دلالة حيوية وخصوبة، فلم يزل أهل العلم يجددون نظرهم التماساً للأصوب، وسعياً للأرجح، وهذا دأب المنصفين، فقد قال عمر بن الخطاب في كلمته الوضيئة: (ولا يمنعنك قضاء قضيته به اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ولا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل). وقد خالف الإمامان: محمد بن الحسن وأبو يوسف الإمام أبا حنيفة في ثلث المذهب، وقالا: (لو رأى إمامنا ما رأينا لغير رأيه)، وهو ما يعبر عنه فقهاء الحنفية بقولهم: (إنه اختلاف عصر وزمان، وليس اختلاف حجة وبرهان). وللإمام أحمد آراء متعددة في المسألة الواحدة جمعها بعضهم في (ثلاثيات الإمام أحمد)، وأوصلها بعضهم لأكثر من ذلك. ومعلوم تجدد نظر الشافعي وفقهه بين القديم في بغداد والجديد في مصر.

سادساً: أن ما تعم به البلوي، ويحدث فيه حرج بالغ وعنت شديد، ويقع التنازع فيه بين الأحوط والأيسر، فإن التماس الأيسر هو الأوفق لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - (من أم الناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والمريض وذا الحاجة)، وهذا أصل يُفزَع إليه في ملمات أحوال الأمة في تدينها وممارسة شعائرها، فقد أدى حرج الزحام البالغ إلى فقدان السكينة وغياب الطمأنينة، وانتقاء الخشوع، وغدا التماس السلامة للنفوس والعافية للأبدان الهم الأعظم للحجاج والمعتمرين عند أداء الشعائر.

عرض المسعى بين النص والاجتهاد:

بناء على ما تقدم فإن مسألة توسعة المسعى ترد في الظنيات القابلة لتعدد الأفهام، فلو كان أمر تحديد عرض المسعى قطعياً لوقع الاتفاق عليه بين علماء الأمة، فالشارع الحكيم ضبط مبدأ السعي بالصفا، ومبلغ المنتهى بالمروة، وجعل أداء المنسك بينهما، قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (158 سورة البقرة).

والعرض بين الجبلين من جهة الغرب إلى الشرق قد وقع التفاوت في أمره، فمن قائل بعدم وجود النص في ضبطه، ففي النهاية لمحمد الرملي الشافعي ج2 ص416: (لم أر في كلامهم ضبط عرض المسعى، وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج إليه، فإن الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة، ولو التوى في سعيه عن محل السعي يسيراً لم يضر، كما نص عليه الشافعي).

وفي حاشية تحفة المحتاج شرح المنهاج ما نصه: الظاهر أن التقدير لعرضه بخمسة وثلاثين أو نحوها على التقريب، إذ لا نص فيه يحفظ من السنة. أ. هـ.

التقدير فيه خلاف:

ومن قال بتقديره فقد تعدد عنهم الروايات في مقدار سعة عرضه اختلافاً يتعذر الاتفاق عليه:

فقد ذكر الأزرقي في زمانه أنه ذرع ما بين العلمين الأخضرين اللذين يليان المروة فوجد ذلك (35.5) ذراعاً.

والإمام أبو عبدالله محمد بن إسحاق الفاكهي قال: عرض المسعى (35) ذراعاً و(12) إصبعاً.

والشيخ باسلامة قال: عرض المسعى (36) ذراعاً ونصف، إلى غير ذلك من الروايات أوردها المؤرخون كالإمام ابن كثير وغيره.

ويضاف إلى ذلك أن الجبلين قد تعرضا لتغيرات بيئية أثرت في عرضهما، فإن جماعة من كبار السن والخبرة من سكان مكة أثبتوا شهادتهم في المحكمة الشرعية بمكة المكرمة بأن جبلي الصفا والمروة أعرض وأكبر، وأنهما ممتدان من الجهة الشرقية، ومن هؤلاء الشهود من كان بيته على الصفا وبعضهم على المروة.

المقاصد تؤيد التوسعة:

فالمسألة إذن اجتهادية وليست موضع اتفاق، الأمر الذي يفتح باباً واسعاً للاجتهاد برعاية المقاصد المعتبرة والمصالح المرعية، التي تقضي بجواز التوسعة، فمن المقاصد المؤيدة لهذا القول:

- حفظ النفوس من التلف، وقد بين الشرع الشريف أن حرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة، كما قال عمر بن خطاب - رضي الله عنه - وهو يسكب العبرات في الملتزم مخاطباً الكعبة: (ما أطيبك وما أطيب ريحك! وما أعظمك وأعظم حرمتك! ولكن حرمة المسلم أعظم عند الله من حرمتك). رواه الترمذي في كتاب البر والصلة.

- التوسعة على الناس، فهل يبقى المسعى كما هو، وقد ضاق بالساعين وأضر بهم، أم ينبغي توسعته، لأن المقصود هو السعي بين الصفا والمروة، وهو حاصل في المقدار الذي يوسع به؛ فالله - تبارك وتعالى - عالم الغيب والشهادة لا يكلف خلقه بعبادة إلا ويسرها لهم، أو يرخص لمن شق عليه شيء منها أن يدع ما شق عليه، وقد أصبح المسعى يضيق بالمسلمين في أيام الموسم، ويشق عليهم، ولاسيما على النساء والضعفاء والمرضى، بل يلقى فيه الأقوياء شدة، وسيزداد الحجاج - إن شاء الله - كثرة سنة بعد سنة.

- إن هناك كثيراً من القواعد الفقهية تسند هذا القول، وتنتصر له، مثل: (إذا ضاق الأمر اتسع)، و(الحرج مرفوع شرعاً)، و(المشقة تجلب التيسير)، و(جواز العمل بالمرجوح مع وجود الراجح، والمفضول مع وجود الفاضل تحقيقاً لمصلحة ودفعاً لمفسدة)، و(لا ضرر ولا ضرار)، ولاشك أن عدم التوسعة يؤدي إلى إلحاق الضرر الجسيم والحرج الكبير بالناس، بل ربما أدى إلى موت بعضهم وبخاصة المرضى والعجزة وكبار السن، وهو ما تنزهت عنه الشريعة السمحة التي انبنت على التيسير والعدل والرحمة والمصالح.

- إن الصفا والمروة هما الشعيرتان بنص القرآن، فأما ما بينهما فهو بمنزلة الوسيلة ليسعى فيه بينهما، والوسائل تحتمل أن يزاد فيها بحسب ما هي وسيلة له، كطواف الطائفين وسعي الساعين، ولا يجب أن تحدد تحديد المشاعر نفسها، كما أن الكعبة هي الشعيرة في الأصل فشرع الطواف بها، والعكوف عندها والصلاة، وهذه الأمور لابد لها من موضع فهو ما حولها، فالموضع كالوسيلة، والشعيرة كالأصل او المقصد، وهذا هو رأي المحدث الشيخ عبدالرحمن بن يحيى المعلمي ت 1386هـ في كتابه المخطوط: (رسالة في توسعة المسعى بين الصفا والمروة).

الاستئناس بالاجتهادات في الشعائر:

ولا يفوتنا أن نستأنس في تجويز التوسعة بما حدث من توسعات من قبل في شعيرة الحج فيما يلي:

- فالمسجد الحرام لم يزل المسلمون في عهود متتابعة ضمن الحكم الإسلامي يقومون بتوسعته في عهود متتابعة، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وعهد عثمان بن عفان، وعهد عبدالله بن الزبير، وفي عهد عبدالملك بن مروان، وفي عهد ابنه الوليد بن عبدالملك، وعهد الخليفة المنصور، وكلها محاولات وتوسيعات ثابتة تاريخياً كما ذكرتها الكتب التي اهتمت بالحرم المكي.

- نقل مقام ابراهيم لغرض التوسعة.

- المبيت بمنى؛ حيث لم يكن في السابق على ما هو عليه الآن، وتوسع فيه الفقهاء المعاصرون، نظراً لتزايد عدد الحجاج عاماً بعد عام، حتى عدّ الفقهاء المبيت بأي مكان يدخل في مساحة الحرم - كالعزيزية مثلاً - أمراً جائزاً ومجزئاً، وغدت مزدلفة موضعاً للمبيت بعد أن اتصلت فيها الخيام كاتصال الصفوف في الصلاة.

- توسيع وقت رمي الجمرات، وقد كان الحجاج لا يرمون إلا بعد الزوال استناداً إلى السنة العملية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لم يلبث أن تزايدت الأعداد، وظل بعض الفقهاء متمسكاً بالرمي بعد الزوال فقط حتى وقع مئات القتلى في هذه الشعيرة إلى أن تجدد النظر الفقهي فربط القديم بالجديد من الاجتهادات، في ظل قواعد في الشريعة الإسلامية التي دلت على جواز الرمي قبل الزوال.

ويجب علينا أن نمتثل المنهج في التعامل إزاء القضايا الخلافية، من وجوب إحسان الظن بالمخالف، وعدم التشنيع عليه، والتماس أدب الخلاف.

وقد نقل عن كثير من السلف عدم الإنكار في مسائل الخلاف إذا كان للاجتهاد فيها مساغ، وهذا مقرر في قواعد الفقه حيث لا إنكار في المختلف فيه.

يقول سفيان: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه. الفقيه والمتفقه 2-69.

وروى عنه الخطيب أيضاً أنه قال: ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً عنه من إخواني أن يأخذ به الفقيه والمتفقه 2-69

ويقول الإمام أحمد فيما يرويه عنه ابن مفلح: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم. ويقول كذلك: لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ منه خلاف في الفروع. الآداب الشرعية 1-186

ويقول ابن تيمية: (مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه). مجموع الفتاوى 20-207

وقال النووي: (ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً). شرح النووي على صحيح مسلم 2-24

اختيار ولي الأمر يرفع الخلاف:

من المقرر أن رأي الإمام ونائبه فيما لا نصَّ فيه، وفيما يحتمل وجوهاً عدة، وفي المصالح المرسلة، معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات.

قال الزركشي: (قالوا حكم الحاكم في المسائل المختلف فيها يرفع الخلاف). المنثور في القواعد 2-69

وقال القرافي: (حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد يرفع الخلاف ويرجع المخالف عن مذهبه لمذهب الحاكم وتتغير فتياه بعد الحكم عما كانت عليه على القول الصحيح من مذاهب العلماء). الفروق للقرافي، ج2-103

والواجب أن يأتم الجميع بولي الأمر في هذا الاجتهاد المبارك الذي يقتضي مؤازرة ودعماً، كما ائتم ابن مسعود بعثمان بن عفان - رضي الله عنهما - في الصلاة بمنى وقال الخلاف شر، وليحذر العلماء من إيقاع الفتنة في صفوف الحجاج والمعتمرين بإشاعتهم عدم صحة السعي في الزيادة الجديدة نظراً لما يوقعه ذلك من حرج بالغ.

الأمين العام للمركز العالمي للوسطية
وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بالسودان سابقاً



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد