في ليلة سوداء قاتمة تكاد بثينة الفتاة الحالمة أن تنفجر بكاء وحزناً.. الضيق يقبض على صدرها وألم غربة النفس قد حاصرها.. أحست بثينة أن حياتها ستسير على هذا المنوال الموحش.
اقتربت من نافذتها لتنظر إلى الأفق البعيد وتفضفض كل ما بداخلها من كلام طويل ويديها قابضة على شباك النافذة تنهدت بعمق وهي تقول: رحمك الله يا أمي فأنا من بعدك أصبحت كالهيكل يعيش مع الناس وهو ليس معهم تغيرت حالتي فتحولت إلى الأسوأ.
آه من غربة الروح إنها لتقطع النفس من جذورها كانت أمي هي كل شيء في حياتي كانت بجانبي أبث إليها همومي وآلامي وأحزاني فتحتضنني بكل رقة وحنان وتأخذ بيدي إلى بر الأمان أما الآن فليس هناك أي شريك مثل أمي؟
وقفت بثينة فجأة عن الكلام وقد اغرورقت عيناها بالدموع لتبلل وجنتيها ويبدو على وجهها الحزن والكآبة.
أسقطت يديها من على الشباك وقفت برهة ثم استدارت بهدوء اتجهت إلى سريرها أم ارتمت باكية جلست فترة بعدها كفكفت دموعها وغطت في نوم عميق لتستيقظ متأخرة على أصوات العصافير المطلة على شباك نافذتها نهضت بسرعة لتبدأ رحلة يومها المعتاد المتكرر.
وقفت أمام (المرايا) رتبت شعرها الأشقر و(المريول) وقفت برهة وهي تنظر (لا جديد) حملت حقيبتها واتجهت إلى المدرسة بعد غياب أسبوع كامل.
هناك قابلتها المعلمة (أحلام) بعدما رأت بثينة بهذا الشكل، وجهها شاحب جسمها هزيل كل شيء متغير فيها.
أخذتها بعيدا عن وجوه الطالبات لتعرف ماذا هناك أجابتها بثينة وبلا تردد:
أنتِ لا تعلمين يا معلمتي كم أنا أعاني من قسوة الوحدة التي أعيشها ففي منزلنا لا يوجد أحد سوى أنا وأبي الطاعن في السن فأبي مقعد وشقيقي الوحيد (فارس) يدرس في الخارج ولا نراه إلا كالشبيه في الرأس كما يقولون أعيش لوحدي أعيش الغربة وأنا في بلدي بين جيراني وأحبابي.
هل تصدقين يا معلمتي الحبيبة أن آخر مرة زارنا فيها شقيقي طلب مني الذهاب معه إلى هناك عندما رآني مهمومة.
لأرى العالم الآخر وأتغير حتى تتحسن حالتي لينتشلني من دهاليز الضيقة والأحزان والوحدة إلى أهازيج الفرح والسرور والبهجة ولكني رفضت لأبقى جانب أبي أقدم له الدواء والمساعدة قاطعتها معلمتها أحلام وهي تهدئها.
اسمعيني جيدا يا ابنتي بثينة الحياة ألم تحتاج إلى الصبر والمثابرة والجد والاجتهاد، لابد منك أولا أن تنتشلي نفسك من هذا المأزق وتحولي ذاتك إلى حياة أفضل، لا زلت في ريعان شبابك لم تبلغي الثامنة عشر من عمرك عيشي حياتك يا بثينة لا تقتلي نفسك بنفسك فأنتِ في سن الزهور.
في هذه اللحظة رن جرس المدرسة، التفتت المعلمة إلى بثينة قائلة:
عفواً يا ابنتي هيا إلى الطابور وسنكمل حوارنا في أقرب فرصة بإذن الله.
دخلن الطالبات في صفوفهن وبعد انتهاء الحصص خرجت بثينة لتعود إلى منزلها الرابض في أطراف القرية لتكمل بقية يومها في التفكير القاتل، والوحدة المملة، والعزلة المستمرة.
عاشت بثينة على هذه الحالة المريرة لا أنيس ولا رفيق بجانبها ومع هذا كله لا تحب الخروج من المنزل مطلقا وتريد أن تعيش مع نفسها وهذا ما زادها ضيقاً.
مرت السنين كبرت بثينة وتخرجت من الجامعة وفي إحدى الليالي كانت بثينة بجانب أبيها تساعده في القيام لتقدم له طعام العشاء.
في هذه اللحظة رن جرس المنزل وطرق الباب.
تعجبت بثينة لأنه ليس من العادة أن يأتي أحد في هذا الوقت بقيت لحظات لا تعلم ماذا تفعل ازدادت دقات قلبها مع زيادة طرقات الباب.
قررت بثينة أن تتقدم نحو الباب تقدمت ببطء إلى أن وصلت.
هنا سمعت صوت شقيقها فارس خلف الباب لم تتمالك نفسها عندما سمعت صوته يا لها من مفاجأة عظيمة.
(فارس) تقولها بأعلى صوتها وهي تفتح الباب على مصراعيه.
لحظات رائعة.. دقائق جميلة ليلة مفعمة بالإحساس الصادق والبهجة التي سكنت قلب بثينة.
دخل فارس على والده لم يصدق أبو فارس عندما رأى فارس بين يديه وهو يقبله مرت ساعات تلك الليلة سريعة لم تشعر بها بثينة ولم تعشها منذ سنين بعيدة.
ففيها ضحكت كثيرا من قلبها وابتسامتها الجذلى سكنت محياها فرحة به كذلك عندما علمت أن فارس سيبقى بجانبهم ولن يعود مرة أخرى.
مرت الأيام والشهور الجميلة وفي أحد الأيام زاد مرض أبي فارس التقطه فارس مباشرة إلى المستشفى وعند وصوله ذكروا أنه لا يوجد الدواء المناسب لوالده إلا في مكان آخر.
ذهب فارس لوحده وهو يمشي بسرعة هائلة تجاوز الكثير من السيارات ليتمكن من الوصول في أسرع وقت للحصول على دواء والده لكن هذه المرة حصلت إرادة الله وقع فارس في حادث أليم انقلبت حينها سيارته عدة مرات وبسرعة عجيبة ذهبت روح فارس.
نعم توفى فارس ذلك الشاب الجميل البار بوالديه الذي كان يتحلى بأخلاقه العالية وصفاته الجميلة رحل ورحلت عطاءاته.
هنا بدأ أبو فارس يصارعه المرض بقوة عندما تأخر الدواء عنه ازداد مرضه لم يتحمل بدأت أصوات الأجهزة ترتفع وترتفع لتعلن فجأة توقف نبض قلب أبي فارس.
توفي أبو فارس بعد ابنه بدقائق ولا أحد يعلم أن القدر ينتظر فارس وأبيه أصبحت الآن بثينة وحيدة وعندما علمت كادت أن تجن صرخت لم تصدق.
أبي أخي فارس رحلوا..
لا لا.. مستحيل لا يمكن توالت الصرخات والبكاء حتى فقدت وعيها.
هناك بالمستشفى بعدما فتحت عينيها بدأت تنظر وكأنها مغشي عليها.
لم تصدق بما جرى فكأن على صدرها جبلا لا يزيله أحد إلا أن يشاء الله.
فلو رأت حالتها صخرة صماء لتصدعت رأفة بحالها.
حزنت بثينة حزنا شديداً لم تحزنه من قبل في فقد أبيها وشقيقها في لحظات وقفت معلمتها أحلام معها وقفة الأم الحنونة.. المعلمة الفاضلة.. المربية المخلصة.
لم تقصر معها أبداً لكن بثينة لم تشعر بمن حولها فهي تنظر لحالها ومنزلهم الذي أحياه فارس مدة قصيرة بعد عودته من الخارج ووجود والدها الذي كان كل شيءٍ في حياتها، هما اللذان كانا يملآنه حبا وأنسا فكيف بحاله الآن سلمت بثينة أمرها إلى الله فهكذا هي الحياة.
تذكرت حينها عندما نردد دائما قول الشاعر:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها
وكل يوم مضى يدني من الأجل
سارة القحطاني - الرياض