مكونات الثقافة الإسلامية لا تتذمر من التجديد،ولا تضيق به ذرعاً،بل تتبناه وتحرض على مباشرته،وعلى بلورة كينونة حديثة له، وعلى محورية الوعي بكيفية إسقاطه على الواقع المتعين،
مكونات الثقافة الإسلامية لا تتذمر من التجديد،ولا تضيق به ذرعاً،بل تتبناه وتحرض على مباشرته،وعلى بلورة كينونة حديثة له،وعلى محورية الوعي بكيفية إسقاطه على الواقع المتعين،وتاريخ أمتنا العريق مترع بالعديد من المجددين أمثال عمر بن عبدالعزيز الذي جدد سنن الخلفاء الراشدين بعد اندثارها واندراس معالمها،والشافعي الذي دشن لعلم أصول الفقه،وابن تيمية وابن القيم وابن الوزير وولي الله الدهلوي والغزالي وغيرهم. إن تجديد الشيء لا يجري بإزالة جوهره،ومصادرة خصائصه،فهذا ليس تجديداً بل هو تقويض تتداعى جراءه معالم الفقه،وتندك صروحه،وتبلى مكوناته الأساسية؛ إن تجديد الفقه لا بد أن يكون من داخله وبأدواته المعتبرة،وأن تجري ممارسة ذلك من قبل أربابه وعلمائه وذوي الاختصاص الذين محضوا نشاطاتهم وقفاً عليه.
التجديد في الفقه لا يكتسب موضوعيته إلا باعتماد فقه الصحابة وفقه التابعين ووضع ذلك في عين الاعتبار بحسبه ثروة تشريعية وحقوقية هائلة،يجب الانبعاث التجديدي على ضوئها ووفقا لأصولها وخطوطها العريضة؛ في واقعنا الراهن كثر الأدعياء الذين تطفلوا على علم الفقه،وفرضوا أنفسهم عليه عنوة،ونصبوا أنفسهم علماء في مجال لم يؤهلوا له ولا يعون أبجدياته.
ينظّر أحدهم في أمهات المسائل،ويدبج عشرات المقالات،وقد ينسج عشرات الكتب ويروم أن يلغي تراث الأمة بأكمله،ويصادره عن بكرة أبيه،ويصم علماء الأمة بالجهل في الوقت الذي هو جاهل بالنصوص،لا يفقه مقاصد الشريعة،ولا يعي لغة العرب،لديه جهل رحب بأقوال الفقهاء،ولا يستوعب قواعد المذاهب،ارتطامه على وجهه في مستنقعات الجهل يحول بينه وبين أن يتقن قراءة صفحة من كتاب ثر،مثل الرسالة للشافعي،أو الموافقات للشاطبي،أو بدائع الصنائع للكاساني،أو المغني لابن قدامة أو المجموع للنووي أو الذخيرة للقرافي، أو البرهان لإمام الحرمين،أو المستصفى للغزالي،أو المحصول للرازي،إنه لا يستطيع أن يعزو كثيرا من الكتب إلى انتماءاتها المذهبية،فضلا عن معاينتها،أو البحث في بطونها،وفيما بين دفتيها،في هذا السياق يأتي محمد أركون كواحد من الذين يسعون إلى بلورة فلسفة جديدة للتجديد،مع أنه لا يملك ما يؤهله لولوج هذا الباب!!،فالتجديد يمثل لديه انقلابا شاملا على الرؤية الإسلامية،من خلال جل أطروحاته،والتي يمارس فيها قراءة جلمودية صلدة للتراث الفقهي،ومن أبرز أعماله كتابان هما (من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي) و(تاريخية الفكر العربي الإسلامي) إذ هما يمثلان نموذجا لما يراه في أصول الفقه الإسلامي أو مصادره الأصلية،وهما القرآن والسنة،ففي كتابه (تاريخية الفكر العربي الإسلامي ص288) يستهين بالشريعة،ويشتغل على إقصاء منطلقاتها،وتعزيز نفيها،وتوهين حضورها في الواقع المسلم ويؤكد أن كتاب الرسالة للإمام الشافعي ليس إلا (الحيلة الكبرى التي أتاحت شيوع ذلك الوهم الكبير بأن الشريعة ذات أصل إلهي) وفي كتابه (من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي) تحدث عن المصدر التأسيسي الأول لأصول الفقه وهو القرآن الكريم فشكك في صحته ونعته بالقرآن الرسمي (انظرصفحة 34) ولا تعجب أخي القارئ،فأركون يذهب إلى أبعد من ذلك حيث يرى أن الله تعالى وتقدس عبارة عن مشكلة!! (انظرالإسلام والحداثة ص343)،وهو يرى أيضا أن الناسخ والمنسوخ شأن يلائم انتهازية المشرعين،وأنه عمل من إنتاج علماء الأصول لمعالجة النصوص التي يرى أنها متناقضة (انظر: من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي ص 69).
ويشن هجوما نقديا عاصفا على الصحابة متهما لهم بالتلاعب بالنصوص القرآنية من أجل تشكيل علم التوريث حيث يقول: (إن المشرعين من البشر أي الفقهاء،قد سمحوا لأنفسهم بالتلاعب بالآيات القرآنية من أجل تشكيل علم للتوريث يتناسب مع الإكراهات والقيود الاجتماعية- الاقتصادية الخاصة بالمجتمعات التي اشتغل فيها الفقهاء الأوائل) انظر (من الاجتهاد الى نقد العقل الإسلامي ص67).
أركون يبالغ في التجديف،والسير بشكل معاكس للنسق المعرفي للأمة،على نحو لا ينم إلا عن خواء معرفي حاد،ويفرط في الانسياق خلف ما يمليه عليه خياله المأفون،ويتهم الإمام الطبري في تؤيله لآية الكلالة (سورة النساء,الآية 12) بأنه قد زور هذه الآية لاضطهاد المرأة وتبرير الوضع المزري في تصوره الذي كان يحيط بها فهو يرى أن القراءة الصحيحة للفعل (يورث) هي البناء للمعلوم لا للمجهول كما هو المثبت في المصحف (انظر ص 52 من الكتاب ذاته)،أركون يعتقد أن النصوص كشفت له وحده عن أسرارها،وأسلمت له دلالاتها قيدة مطواعة!!،ومما يبعث العجب أن أركون يمارس أستاذية مباشرة على الإمام الطبري،ويتدخل في اختصاصه المباشر،بل وبفعل تورم مرضي جامح ينصب ذاته إماما في اللغة،ومرجعا في علومها،حيث يستدرك على الطبري،ويفتي في قواعد العربية وأصولها،بل ويطمح إلى أن يقوم بدور تصويبي يصحح للخليل بن أحمد ويوجه سيبويه إمام النحاة!!،يفعل ذلك وهو قد تولى كبر المحاربة للغة بل ينادى بتفجيرها!؛ لأن بغضها قد ملأ عليه أقطار وعيه،ولذا فهو يصفها بأنها لغة منغلقة متخشبة ميتة!،إنه يستميت في أن يجعل كل شيء على حسب ما يمليه عليه عقله وتفكيره؛ لأنه انتهى بعد عمق تفكير إلى أن كل شيء خاطئ إلا هو!!،أركون هنا في حقيقته يقوم بسلوك تدميري ينسف الثابت عبر الزعم بتزوير القرآن وأن فقهاء التأويل يفرضون علينا عقائد مزورة لا تمت إلى الإسلام بصلة!،وبناء على هذا يوجب علينا أركون أن نذعن لمقولاته،وأن نشك في عقائدنا وأن نخضع القرآن - وهو المصدر التأسيسي الأول - للنقد الابستمولوجي الباشلاري،والمساءلة المعرفية لأن التزوير قد طال آياته بفعل عبث الفقهاء!،عقلية التخاصم تبرز هنا جلية بمكوناتها حيث يصنف المخالف له بوصفه المرفوض الذي يجب إلغاؤه!. أركون يصف العقائد الاسلامية بأنها أرثوذكسية ويلح على أنها مجرد فروض فرضها الفقهاء وليس لها حظ من البعد الموضوعي حيث يقول: (يمكننا أن نبرهن على أن الأرثوذكسية المعاشة من قبل المؤمنين بصفتها الممارسة الحقة المطابقة للعلم الحق المنصوص عليه من قبل الله ليست في الواقع إلا عبارة عن مجمل القرارات التي اتخذت بالصدفة وعلى هوى الظروف والأوضاع من قبل الفقهاء ثم سجلت في نصوص مقدسة) (انظر ص 78من المصدر السابق). أركون يصعب عليه أن ينقد القرآن بشكل مباشر،أو أن يوجه إليه سهام الشك،ويضعه موضع المساءلة،كما هو الشأن في النصوص الأخرى فهذا يضعه في مأزق معرفي حيث سيفقد المتلقي الثقة في مقارباته،وسيشيح عنها بوجهه،ويتعاطى معها بنوع من الريبة والشك ولذا فأركون يجنح,- وكإجراء ذرائعي،فلديه براعة فائقة في الدجل التضليلي - إلى التقليل من قيمة العلماء والتشكيك في منطلقاتهم ليسهل بالتالي مصادرة ما توصلوا إليه من آراء،ولكي يجذر هذه الفكرة في ذهن المتلقي فهو يتعمد إرهاب القارئ بلغة ضبابية تعج بكثافة من المفردات والمصطلحات ذات الطابع الهلامي،يقول أركون: (الشيء الذي ينبغي أن يحظى باهتمامنا،هنا،وينبغي التركيز عليه هو ذلك الزعم المفرط والغرور المتبجح الذي يدعيه الفقهاء بأنهم قادرون على التماس المباشر بكلام الله) يعني فهم كتاب الله ووعي دلالاته (انظر المصدر السابق ص 16,15) إذا هو يتفانى في التأكيد على أن القرآن ليس إلا طلسما يتعالى على الفهم،ويستعصي على الوعي،ولذا فليس له أي قيمة عملية على أرض الواقع،وبناء على هذا يتحتم إقصاؤه،واستدبار نصوصه،هذه النتيجة العلمية الضخمة جهلها العلماء وأهل الاختصاص،وأدركها- وببساطة متناهية محمد أركون الذي ظن أنه مخول لأن يصبح مجتهدا،وأن يستدرك على الإمام ابن تيمية والشاطبي والغزالي،ولا يعي أنه لايزال يحبو-هذا إن كان مؤهلا للحبو- خارج حقل الفكر الإسلامي. لا يكترث أركون بإجماع العلماء ولا يأبه بتواضعهم على شأن ما طالما أجمع بعض شيوخه على مباينتهم يقول أركون: (فالإجماع هنا هو إجماع الأغلبية العددية فقط هذا الإجماع الذي لا يكلف نفسه عناء تقويم الرهانات التيولوجية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية المترتبة على حذف قراءة معينة تبدو أكثر صحة ومنطقية من الناحية اللغوية والقواعدية) انظر(:من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي ص 38,37).
Abdalla_2015@hotmail.com