إن تدوين التاريخ ليس بالأمر اليسير لأنه يتطلب جرأة موضوعية بعيدة عن أي تأثير في شخصية كاتب التاريخ. ويتطلب من المؤرخ المحايد الكشف عن الحقائق التاريخية التي عايشها في تاريخه، وألا يتحدث عما قيل ويقال عن شخصيات الوطن.
بل على المؤرخ أن يتحدث عما تمليه المواقف المخلصة لرجال السياسة الذي صنعوا التاريخ على حقيقته.. ويتغلب الإعراب عن الدوافع التي كانت تنضوي وراء الأحداث.
إن شخصية المؤرخ ومدى مصداقيته وتجرده من كل المؤثرات، كل هذه الجوانب تلعب دوراً مهما في عرض الأحداث، باعتبار أن التاريخ هو شرف الأمة وجبينها، والتاريخ هو الفكر والحضارة بل هو روح المستقبل فبقدر نصاعته تنبعث الأمة من خلال تطلعاتها للمستقبل. وهذا حق مكتسب للأجيال الصاعدة التي تتولى مسؤولية الأوطان، لأن الزعامات تزول ولكن يبقى التاريخ ناصعاً أمام الشعوب، كما يبقى الوطن.
وفي هذه الحلقة (الثانية) نتناول الحديث عن دور الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه في قيام جامعة الدول العربية التي ضمت سبع دول عربية نالت على السيادة والاستقلال وكان يجمعها الهدف الواحد في الحفاظ على سيادة الوطن العربي بعيداً عن التحالفات الإقليمية والدولية التي تضر بمصالح الشعوب العربية، ومن خلال متابعتي لأحداث التاريخ العربي بكل دقة وموضوعية.
لقد كان الملك عبدالعزيز أمام زعماء وقادة العالم العربي وبخاصة أمام القيادتين السورية واللبنانية والشعبين السوري واللبناني الشعلة المضيئة لقدرات الوطن العربي من بحر الخليج العربي حتى المحيط الأطلسي الذي يلتقي فيه البحر الأبيض المتوسط والبحر الأطلنطي، وكان مسانداً لكل الحركات الوطنية لتحصل شعوب الوطن العربي على السيادة والاستقلال والحرية.
وبتوجيه صادق من الملك عبدالعزيز للقادة في سورية ولبنان لتوحيد مواقفهما المشتركة بهدف إزالة الانتداب الفرنسي عن أراضيها وحدودهما المشتركة كان التعاون المشترك بين البلدين واضح المعالم وتم الاتفاق على الاشتراك في المفاوضات مع القيادات الفرنسية التي تولاها الجنرال ديغول حيث تُقدم المذكرات المشتركة الواحدة وتطالب القوات الفرنسية بتسليم الصلاحيات الممارسة على البلدين. وبهذا الأسلوب تحقق التعاون الأخوي لتحقيق الأهداف بين سورية ولبنان.
لذلك بلغ هذا التعاون حداً وعقد مجلسا النواب في البلدين جلسات مشتركة في العاصمة السورية دمشق باعتبارها قلب الأمة العربية النابض، وهذا ما سجله التاريخ السوري حقاً باعتبار أن مدينة دمشق كانت أقدم مدينة في على الكرة الأرضية.
وبدأت جلسات مجلس النواب المشتركة يوم الخميس 23 كانون الأول 1943م وكان يوماً مشهوداً في تاريخ سورية ولبنان وعلى جانب كبير من الأهمية وبحضور السلطات الأجنبية وسفراء الدول المعتمدة في البلدين والقيادات السياسية الوطنية في سوريا ولبنان.
وتحدث في جلسة الافتتاح دولة رئيس مجلس الوزراء السوري سعد الله الجابري مقدماً كلمة سورية، وتحدث دولة رئيس مجلس الوزراء اللبناني رياض الصلح مقدماً كلمة لبنان. وشرح كل منهما في بيان شامل عن موقف البلدين في استلام الصلاحيات من القوات الفرنسية وأكد الجابري والصلح بصريح العبارة وبجملة مختصرة. بأن جميع الصلاحيات نقلت إليكم، مع المصالح المشتركة إليكم بلا قيد ولا شرط. وحصلت سورية ولبنان على الاستقلال المشترك والسيادة الوطنية بعد طول جهاد مشترك.
لذلك اعتبر بيان الجابري والصلح وثيقة وطنية موحدة والعمل المشترك وتم الاتفاق على أن يكون لبنان في المنطقة العربية وضمن المجموعة للعالم العربي وأن يكون رئيس الجمهورية اللبنانية - مارونياً - باعتباره صلة الوصل بين العالمين العربي والدولي وهذا ما يساعد خدمة ودعم قضايا الأمة العربية وبلوغ أهدافها المشتركة في المحافل الدولية ويساعد على الكيان الفلسطيني ووجوده بين الأشقاء العرب لأن القضية الفلسطينية إنما هي قضية العرب الأولى. وتخص بالشعبين المسلم والمسيحي.
وفي مطلع شهر آذار (مارس) 1945م شهدت مدينة أنشاص في القطر المصري اجتماعاً تاريخياً ضم الأمير سعود بن عبدالعزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية نيابة عن والده والملك فاروق عن مصر، والأمير عبدالله بن الحسين أمير شرف الأردن، والأمير عبدالإله الوصي على عرش العراق، والإمام سيف الإسلام عبدالله نائباً عن والده الإمام يحيى ملك اليمن، وشكري الفوتلي رئيس الجمهورية السورية والشيخ بشارة الخوري رئيس جمهورية لبنان.
وجرى في هذا اللقاء الذي ضم الدول العربية السبع مناقشة مشروع ميثاق جامعة الدول العربية وتم إقراره وبهذا كان لبنان من الدول المؤسسة للجامعة العربية، وكان قادة الدول العربية في ذاك التاريخ إنما يمثلون أربعين مليون نسمة لسكان العالم العربي. والآن بلغ أعضاء الدول في الجامعة العربية 22 دولة وبلغ عدد سكانها مئات الملايين.
وجاء في مقدمة ميثاق جامعة الدول العربية الفقرة الآتية:
(تثبيتاً للعلاقات الوثيقة والروابط العديدة التي تربط بين الدول العربية، وحرصاً على دعم هذه الروابط وتوطيدها على أساس احترام استقلال الدول وسيادتها وتوجيهاً لجهودها إلى ما فيه خير البلاد العربية قاطبة وصلاح أحوالها وتأمين مستقبلها وتحقيق أمانيها وآمالها، واستجابة للرأي العام في جميع الأقطار العربية، فقد اتفق كل من رئيس الجمهورية السورية الرئيس شكري الفوتلي، وأمير شرق الأردن الأمير عبدالله بن الحسين، وملك العراق فيصل الثاني، وملك المملكة العربية السعودية الملك عبدالعزيز آل سعود، ورئيس الجمهورية اللبنانية الشيخ بشارة الخوري، وملك مصر فاروق، وملك اليمن الإمام يحيى حميد الدين، على عقد ميثاق لهذه الغاية وأنابوا عنهم للتفويض من يمثلهم).
وأعلن يوم الخميس في 22 آذار (مارس) 1945م عن قيام جامعة الدول العربية رسمياً في قصر الزعفران بالقاهرة ووقع الميثاق رؤساء الوفود العربية ومثل مصر محمود النقراشي باشا رئيس الوزراء، ومثل سورية فارس الخوري رئيس الوزراء، ومثل الأردن سمير باشا الرفاعي رئيس الوزراء، ومثل المملكة العربية السعودية الشيخ يوسف ياسين نائب الأمير فيصل وزير الخارجية، ومثل لبنان عبدالحميد كرامي رئيس الوزراء، ومثل العراق أرشد العمري وزير الخارجية.
وتم إرسال صورة الميثاق إلى المملكة اليمنية للتوقيع عليها وأعيدت إلى القاهرة وحفظ نص الميثاق في مقر وزارة الخارجية المصرية كما سلمت الوفود العربية نسخة من نصوص الميثاق والملاحق المرفقة وهي تتعلق:
1 - القضية الفلسطينية، 2 - التعاون مع البلاد العربية غير المشتركة في مجلس الجامعة، 3- تعيين عبدالرحمن عزام أميناً عاماً لجامعة الدول العربية، 4 - نصوص المعاهدة الثقافية العربية، 5 - معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين دول الجامعة العربية مع ملخصها العسكري، 6 - اتفاقية بشأن جنسية أبناء الدول العربية المقيمين في بلاد غير التي ينتمون إليها بأصلهم، 7 - اتفاقية بإنشاء المؤسسة المالية العربية للاتحاد الاقتصادي واتفاقية الوحدة الاقتصادية بين دول الجامعة العربية بما فيها تنسيق السياسة البترولية، 8 - دستور منظمة العمل العربية والسوق العربية المشتركة.
وبعد إعلان قيام جامعة الدول العربية أخذت الوفود السياسية في العالم العربي تتسابق لزيارة المملكة العربية السعودية للتشرف بلقاء الملك عبدالعزيز لتقديم الشكر والامتنان على إنجاز تلك الخطوة العربية التي ستحقق آمال الشعوب العربية معلنة تأييدها لكل خطوات الملك عبدالعزيز الهادفة لجمع شمل الدول العربية.
وكانت الوفود السورية قد فاقت الوفود العربية بالتوجه إلى الرياض بالنظر للدور الكبير الذي حظي به الوطن السوري من الرعاية والتأييد الشامل. حيث كانت سورية العربية في ذاك التاريخ سيدة الموقف بين المجموعة العربية محافظة على حيادها التام بين المحاور الإقليمية لأن القضية السورية بقيت بين القضايا العربية الأساسية التي تشغل بال الملك عبدالعزيز وتستأثر اهتمامه واضعاً نصب عينه دائماً تحرير سورية واستقلالها وازدهارها دون أن يقيم كبير وزن لأنظمة الحكم التي نتعاقب عليها بين حين وآخر، إلا بقدر ما يكون هذا النظام أو ذاك مؤمناً لمصلحتها ومحافظاً على استقلالها وسيادتها، ومتجاوباً مع رغبات شعب سورية الوطنية. وما دامت سورية جزءاً لا يتجزأ من بلاد العرب والمسلمين، فإن دعمه للحفاظ على استقلالها وسيادتها واجب من الواجبات التي يحاسب عليها أمام الله وأمام نفسه وشعبه.
وقام الملك عبدالعزيز يوم السابع من كانون الثاني (يناير) 1946م بزيارته الثانية واستمرت الزيارة حتى 22 منه وتباحث مع الملك فاروق في أمر بأن التعاون العربي وتنسيق جهود الدول العربية بشأن تنفيذ الأسس التي قامت عليها جامعة الدول العربية.
واستقبل جلالة الملك عبدالعزيز في قصر الزعفران بالقاهرة وفد كبير من مشايخ مصر وتحدث إليهم عن أهمية قيام الكيان العربي الموحد في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية وانتصار دول المحور على ألمانيا النازية مؤكداً بأن هذا الكيان سيجمع شمل العالم العربي وشعوبه.
وأكد جلالته بأن جامعة الدول العربية ليست بنت اليوم، لقد فكرت فيها منذ زمن بعيد بهدف توحيد كلمة العرب، وقيام العمل المتواصل لبناء الوحدة العربية، وكلي أمل وانسجام تام مع هذا الشعور العام القومي الذي تمكن من نفوس العرب في سائر الأقطار العربية، بعد أن آمن أبناء الأمة العربية بأن لا سبيل إلى الحرية والاستقلال، ولا سبيل إلى النهوض والفكاك من قيود الاستعمار والانتداب الدولي إلا بالاتحاد والتآزر، وجمع القوى المتفرقة وتوجيهها لتحقيق الأهداف المشتركة لكافة الشعوب.
وأضاف جلالته: إن هذه الفكرة العربية الشاملة قد نمت في السنوات الماضية وأن حكومة المملكة العربية السعودية ستكون أول الملبين لهذا الطلب القومي والعاملين بإخلاص للوصول إلى الهدف المنشود.
وقال إن مستقبل الجامعة العربية مرهون بمشيئة الشعوب؛ لأن الرؤساء والأمراء ينفعون الجامعة بتأييدهم إياها، ولكنهم لا يثابرون على تأييدهم إلا إذا عرفت الشعوب مزاياها واتفقت على الرغبة فيها وحالت بهذه الرغبة القوية النيرة دون تنافس الرؤساء وتنازع الأمراء.
وتابع الملك عبدالعزيز يقول: كل أمة تريد أن تنهض لا بد لكل فرد فيها من أن يقوم بواجبات ثلاثة: أولها واجباته نحو الله والدين، وثانيها واجباته في حفظ أمجاد أجداده وبلاده، وثالثها نحو شرفه الشخصي.. ومن الواجب أن تحرصوا على العمل، والعمل لا يكون إلا بالتساند والتعاضد.. وأقول لكم أنا وأسرتي وشعبي جند من جنود الله لخير العرب والمسلمين.
وتعرض الملك عبدالعزيز لتكوين الزعماء والقادة فقال: المسلمون ينقصهم معرفة الزعماء والأشخاص ونفسياتهم؛ لأن هناك أشخاصاً من المسلمين يتظاهرون بالغيرة والتضحية، وهم في حقيقة الأمر على عكس ذلك، إنهم يتظاهرون بالغيرة، ويسعون في الخفاء لتنفيذ مآربهم الشخصية، والتجسس على حال إخوانهم وهذا أمر يؤسف له، لأن الأضرار التي لحقت بالعرب والمسلمين جاءت من هذه الطريقة.
وخلال تواجد جلال الملك عبدالعزيز في القاهرة سافر جميل مردم بك وزير خارجية سورية إلى مصر ليحظى بلقاء العاهل السعودي وليقدم شكر الشعب السوري على الرعاية الملكية التي أبداها جلالته نحو الوطن السوري، ورافق الوزير وفد يضم رجال الصحافة، وكان لي الشرف أن أكون في عداد الوفد وكان اللقاء الأول مع جلالته الذي جرى في قصر الزعفران ومضى على هذا اللقاء التاريخي ما ينوف على ستة عقود.
وشرح الملك عبدالعزيز في هذا اللقاء الشأن العربي في ضوء الأحداث الدولية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وأكد حاجة سورية اليوم للتضامن في صفوف أبنائها، لأن التضامن قوة ومنعة وعلى الشعب السوري أن لا يدعوا الشيطان يوسوس بين الأفراد والجماعات، لأن التفرقة تذهب ريحكم، وتفسح المجال للطامعين في دياركم أن يبلغوا ما يريدون ويشتهون.
وقال جلالته: كان النبي العربي صلى الله عليه وسلم مقدراً قيمة التماسك والتواصل فقال لأمته الإسلامية من بعده كونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، فعلى السوريين أن يزدروا حطام الدنيا، ومفاتن الحياة وعليهم أن لا يأخذوا بدسائس الغير لأنهم أعداؤكم وأعداؤكم وحدكم.
وتحدث الملك عبدالعزيز عن سمعة سورية في العالم الخارجي قائلاً: كنت أسمع في أذني هذه - وأشار بيده إلى أذنه - إن السوريين قوم يقولون كثيراً، ولكنهم لا يجمعون على رأي واحد، ولكن كنت أتجاوز عن هذا القول لأنني مدرك بأن دمشق هي مبعث الحركة العربية وصاحبة فضل كبير في التقريب بين البعيد والقريب فعليكم أن تتماسكوا وتهجروا المنافع، فالوقت الآن هو وقت الملمات.. وقد لمست هذا في حركتي لتحرير الرياض.. والتف حولي كثيرون من أعدائي يوم ولى العداة وارتفعت رايتي في الرياض وغير الرياض. وأخذت بلادي بالسيف، وأعدت مجد آبائي، وليست لي مطامع في بلادكم.. وقد أبلغت الرئيس روزفلت ذلك وأكدت له ليس لي مطلب عند الأمريكان سوى سورية وفلسطين.
وقال: ثقوا أنني أريد سورية دولة مستقلة استقلالاً تاماً وليس من أثر لظل الأجنبي في بلادكم وسبق لي أن اعترفت باستقلالكم عندما أعلنه الحلفاء لأنه خطوة أولى في طريق سيادتكم. وفي الحلقة الثالثة سوف يكون الحديث عن: كيف أوجد الملك عبدالعزيز دولة قوية وتوافر في مملكته رجال لهم عقلية الدولة الحديثة يضطلعون بالمسؤولية نحو وطنهم وشعبهم المخلص لعقيدته الإسلامية.