ذكرنا في المقالة السابقة مقدمة بسيطة حول علاقة الإعاقة بالتميز، وأشرنا في ذلك إلى حقائق ومفاهيم مأخوذة من ميادين معرفية متعددة، فالمعاقون بشكل عام قد يعانون -في نظر بعض العلماء- من عقدة دونية على نحو ما في فترة معينة، وتلك العقدة دفعت الكثير منهم للتغلب على كثير من الصعاب فانطلقوا في عالم الإبداع، فقد اختفت لديهم تلك العقدة وتنامى بدلا منها الشعور بالتفوق لدى كثير من المعاقين، وهذا ما يطلق عليه بعض العلماء (التعويض النيابي)، وبمعنى آخر هي الطريقة التي يعبر بها هؤلاء عن عبقريتهم تعويضاً ونيابة عن عجزهم الخلقي، وأصبح بعض منهم -والنماذج كثيرة- عبارة عن مجموعة وكوكبة من المواهب والعبقريات، وفي نفس الاتجاه يذكر أحد الشعراء تعاون وتعاضد الجوارح والحواس مع بعضها البعض بقوله: |
|
|
ويؤكد على هذا المعنى العالم (إدلر) حيث يرى أن التفوق ناتج عن الشعور بالنقص، فالإنسان المصاب بمرض جسدي يحس بهذا النقص، ومن هنا تبدأ محاولاته سد الثغرات، لذلك وجد بالتعويض الجواب الشافي، فالمقصر في جانب يشتد في أثر جانب آخر حتى يغطي على هذا التقصير أو النقص (انظر كتاب الإعاقة في الأدب العربي للدكتور عبدالرازق حسين)، ويؤكد على ذلك الشاعر بشار بن برد في ديوانه حيث يربط بين الذكاء والعمى بقوله: |
إذا ولد المولود أعمى وجدته |
وجدّك أهدى من بصير وأحولا |
عميت جنينا والذكاء من العمى |
فجئت عجيب الظن للعلم موئلا |
وغاض ضياء العين للعلم رافداً |
لقلب إذا ما ضيع الناس حصلا |
و(لودفيغ بيتهوفن) الذي يعتبر من أشهر مؤلفي الموسيقى الذي تغلب على صممه وهو القائل: (لأغالبن القدر دون أن أحني له قامتي)، والأديب العربي الشهير مصطفى صادق الرافعي فقد عوض عن الصمم الذي أصابه في مرحلة مبكرة من عمره بقراءة وتأليف الكتب، فله أكثر من أربعة عشر مؤلفا، أكثرها في الدفاع عن الإسلام والعربية. |
نتيجة ما سبق طرحه فلا بد من التدخل في أمور المعاقين من الجنسين وتشخيص إعاقتهم تشخيصاً علمياً في سن مبكرة لرعاية النابغين منهم رعاية خاصة سواء في التعليم أو التدريب، وكذلك من قدر له الإعاقة في سن متأخرة لنوجد بيئة صالحة من خلال مؤسسات المجتمع المدني أو بعض الوزارات ذات العلاقة وتؤكد على ذلك الدكتورة (ماجدة السيد) في كتابها تأهيل المعاقين حيث تعتبر المعاقين طاقة إنسانية ينبغي الحرص عليها وهم كذلك جزء لا يتجزأ من الموارد البشرية التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند التخطيط والإعداد للموارد الإنمائية في المجتمع، وما نشاهده من العناية الفائقة وإيجاد بيئة فعالة صالحة من أجل تأهيلهم في الدول المتقدمة كأمريكا خير دليل على ضرورة الاهتمام بهذه الفئة للاستفادة القصوى من قدراتهم الجسمية والعقلية والاجتماعية والمهنية والإفادة الاقتصادية، ونجاح عمليات تأهيل المعاقين يعتمد على مقدار توافر فرص العمل المتاحة لهم في البيئة التي ينتظر أن ينتقلوا إليها ويعملوا فيها، ويترقوا فيها، وليشعروا بالفائدة وبقيمة من المجتمع، وما نشرته مجلة الجزيرة الثقافية في عددها السابع والخمسين عن كيفية معاملة المعاقين في أمريكا تحت عنوان (22 مليون معاق في الولايات المتحدة قهروا الإعاقة بالعمل) يؤكد ما سبق طرحه. ونتيجة لما سبق، أرى ضرورة ابتكار طرق وآليات عمل جديدة لتضييق الفجوة الواضحة بين المعاقين وسوق العمل تقوم بها عدة جهات حكومية تحت شعار (المعاقون من ذوي القدرات) مثل وزارة العمل وديوان الخدمة المدنية، ووزارة الإعلام، وبعض الشركات الرائدة مثل شركة أرامكو السعودية وسابك، وبعض شركات الاتصالات المتميزة كشركة موبايلي، وبعض جامعاتنا التي يوجد فيها تخصصات ذوي الاحتياجات الخاصة من أجل الاستفادة القصوى من ما يسمى (التعويض النيابي) عند المعاقين، وبالتالي فك شفرة الفجوة الموجودة حاليا، لينطلق المعاقون مهما كانت درجة إعاقتهم إلى عالم الإبداع، وأقول على لسان المعاقين المبدعين أنه كلما زادت مصاعبنا، زاد ما سوف توفره لنا تلك المبادرات الرائدة من قدرة على النجاح في حياتنا. |
|
|
|