بدا لي أن الناس تفنى نفوسهم |
وأموالهم، ولا أرى الدهر فانيا |
ما أكثر فجائع الليالي والأيام وتوالي الأحزان القريبة في هذا الزمان، حيث تتابع رحيل الكثير من الأهل والأحبة ورفاق العمر..، وهذه سنة الحياة فظاهر الأرض يستقبل الوافدين وباطنها يحتضن الراحلين إلى يوم النشور يوم يجمع الله الخلائق في صعيد واحد للجزاء والحساب، ففي صباح يوم الاثنين 23- 3-1429هـ هاتفني الأستاذ الزميل إبراهيم بن عبدالعزيز العقيلي من جدة قائلا عظم الله أجركم في زميلنا الأستاذ الأديب عبدالله بن سليمان الحصين - أبو نبيل - أحد أبرز طلاب دار التوحيد بالطائف وبكلية الشريعة بمكة المكرمة حيث لبى داعي المولى مودعا آفاق مدينة جدة التي قضا فيها شطرا كبيرا من عمره، فقلت مسترجعا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} وفجأة طوح بي الخيال إلى أول لقاء به في فناء دار التوحيد عام 1371هـ ولقد تلقاني بكل ترحاب وهنأني بالقبول والانتظام بالدراسة هناك، وأخذ يملي علي بعض النصائح الأخوية باختيار الصحب الأخيار، وبالمثابرة في الجد والإنصات إلى شرح المعلمين والحرص على توسعة المدارك بكثرة الاطلاع على الكتب الأدبية والمجلات المفيدة، وما تيسر من صحف، فالصحافة تكاد تكون معدومة أو قليلة جدا في تلك الأيام - وكان - رحمه الله - قدوة حميدة في حب القراءة والاطلاع على ما يجد في عالم الثقافة والمجلات التي تصل من القاهرة ولبنان إلى بعض مكتبات الطائف مثل: مكتبة الأستاذ محمد سعيد كمال العريقة، و مثلها مكتبة المؤيد بمحلة الشرقية، ومكتبة الزايدي عند باب الريع، ومثله في حب القراءة ابن عمه الشيخ سعد بن عبدالرحمن الحصين بل معظم طلاب الدار يتنافسون في اقتناص العلوم والفوائد من عدة مصادر، فالأستاذ عبدالله شعلة في النشاط الثقافي والخطابي، وكان يرأس النادي ويشجعنا على علو منبره للتعود على الخطابة والارتجال، وطرح رداء الخجل والتهيب متمثلا بهذا البيت: |
بوركت يا عزم الشباب وقدست |
روح الشجاعة فيك و الإقدام |
وقد أكد على أن ألقي كلمة أمام الجمهور وهي الوحيدةّ فاستعنت بزميل الدراسة لا زميل فصل الشيخ الدكتور عبدالعزيز بن محمد العبدالمنعم أمين هيئة كبار العلماء بدار الإفتاء حاليا، فأعد الكلمة بعنوان (من وحي الغربة) فألقيتها وأنا مشدود الأعصاب أمام جموع غفيرة في مقدمتهم سعادة أمير الطائف عبدالعزيز بن فهد المعمر، وسعادة محمد بن صالح بن سلطان وكيل وزارة الدفاع - آنذاك -، ومعالي الشيخ محمد سرور الصبان الذي كان يدعم مكتبة الدار بالمال - رحمهم الله جميعا -، ولفيف من الضيوف والزوار والمعلمين، وكانت أيام وليالي الطائف كلها نشاطات وتآلف بين الزملاء ومعلميهم، ومعظمهم من فطاحل علماء الأزهر أمثال الشيخ: عبداللطيف سرحان وشقيقه عبدالسلام وعبدالرحمن النجار، وعبدالمنعم النمر، ومحمد الطيب النجار، والشيخ طه الساكت، ومحمد سليمان رشدي وغيرهم من أفذاذ العلماء الأجلاء ولقد أحسن أمير الشعراء أحمد شوقي حيث يقول: |
قم في فم الدنيا وحي الأزهرا |
وانثر على سمع الزمان الجوهرا |
رحمهم الله جميعا، وقد تعين الأستاذ عبدالله الحصين (رحمه الله) بالمديرية العامة للإذاعة والصحافة..، ثم تسنم عددا من المناصب الهامة منها: مدير عام التعليم بمنطقة الطائف، ثم مدير عام التعليم بمنطقة جدة، ثم مدير عام البعثات الخارجية بوزارة التعليم العالي، وكان عضوا بارزا في مجلس منطقة مكة المكرمة، وتولى رئاسة تحرير جريدة المدينة فترة من الزمن، وزاول الكثير من الأعمال المشرفة في خدمة الوطن وأهله..، فهو صحفي وكاتب مجيد قلمه طيع بين أنامله كثير الظمأ والرشف من بحيرات المحابر - آنذاك -، ولقد أفنى الكثير من الأقلام التي تسيرها أفكاره النيرة التي تنحدر من هضاب قلبه، ومن أعالي رأسه..، وكان يحثني دوما على البقاء بالطائف لإتمام الدراسة بالمرحلة الثانوية لطيب هواه واعتدال جوه، والابتعاد عن مشاغل الأهل والمحيط الأسري بحريملاء، مرددا قول أبي تمام حيث يقول: |
وطول مقام المرء في الحي مخلق |
لد يباجتيه فاغترب تتجدد |
ومذكرا بقول الإمام الشافعي - رحمه الله - |
ما في المقام لذي عقل وذي أدب |
من راحة فدع الأوطان واغترب |
سافر تجد عوضا عن من تفارقه |
وانصب فإن لذيذ العيش في النصب |
ولكن نظرا لرغبة الوالدين - رحمهما الله - لأكون على مقربة منهما انتقلت إلى المعهد العلمي بالرياض في بداية عام 1373هـ بالسنة الثالثة، أنا وبعض الزملاء أمثال الأستاذ عبدالله الحمد الحقيل، والدكتور محمد بن سعد الحسين والدكتور محمد بن عبدالرحمن المفدى، ومعالي الدكتور عبدالعزيز بن محمد العبدالمنعم، وغير هؤلاء الأخوة الكرام..، ولنا مع (أبو نبيل) ذكريات جميلة لا يغيب صداها عن البال أبد الأيام..، |
حيث كنا بالقسم الداخلي (المهجع) متجاوري الغرف فإذا تعبنا من استذكار الدروس روحنا عن أنفسنا بالمساجلات الشعرية، وببعض الطرائف الأدبية الخفيفة..، كذلك ليالي الرحلات المتعددة نقضيها في مسامرات أدبية وتمثيليات هادفة، منها رحلة وادي عشيرة الواقعة شمال الطائف فقد أصاب الأستاذ عبدالله في تلك الأمسية مرض مفاجئ يقال له (الخاطر) فقال الأخ إبراهيم الحمدان - رحمه الله - أحد العاملين في دار التوحيد متطببا أحمو الحديد بالنار نبطه..،! في باطن عرقوبه الأيسر لعل الله يشفيه، وقد أمسكوا به فلما رأى إحمرار الحديد رفع صوته منزعجا قائلا طبت طبت..؟ وقد شفي بحمد الله وهذه من طرائف الرحلات هناك..، وكانت ليالينا كلها أنس ومسرات، وهذا مما خفف عنا وحشة الغربة والبعد عن الأهل،.. ولا يسعنا في هذه العجالة المحزنة إلا أن نرفع أكف الضراعة داعين لأبي نبيل بالمغرفة وطيب الإقامة في جدثه إلى أن يبعث الله جميع الخلائق، وأن يلهم ذويه وأبنائه وزوجته ومحبيه الصبر والسلوان ملوحا بهذا البيت للشاعر الأديب محمد بن سليمان الشبل: |
يا راحلا شرقت روحي بلوعته |
ورف لي منه أيام ومدكر! |
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} |
فاكس 015260538 |
|