إنَّ تحقيق متطلبات التنمية الشاملة واستدامتها، يرتبط بالكلية بقدرة المجتمع على استيعاب وتوطين عناصر الإبداع والابتكار في المنظومة المعلوماتية والمعرفية العالمية ذات الطبيعة المتجددة،
وبما يتيح للمجتمع ذاته الدخول بقوة إلى حلبة المنافسة في مجالات الإنتاج السلعي والخدمي.
من عناصر الإبداع والابتكار بهذا الخصوص ما يتعلق بسوق العمل وبيئته، وتُمثِّل القوى العاملة أبرز مكوناته، وأداته الأساسية لتحريك المشروع التنموي نحو آفاقه المرسومة، وبرامجه وأهدافه وسياساته المستهدفة.
في التجربة السعودية، وبما يخص استقدام القوى العاملة، اتسمت السياسات المتبعة بعدم الكفاءة والفاعلية، وافتقدت إلى حدٍ كبيرٍ نسبياً قواعد الاختيار الملائم وضوابطه.
بداية هذه السياسات تزامنت مع انطلاقة خطة التنمية الثالثة (1400-1405هـ) إذ كانت الحاجة تستدعي الاستعانة بالعمالة الأجنبية لمباشرة برامج التنمية والبناء، التي كانت تمر بفترة زخمٍ شديد نسبياً بفعل ارتفاع معدلات العوائد النفطية، وكانت القوى العاملة الوطنية حينذاك غير مهيأة فنياً وعلمياً لتحمُّل تبعات المشروع التنموي السعودي الطموح.
ورغم الإيجابيات المتحققة على صعيد إسهام العمالة الوافدة في تنفيذ برامج الخطط التنموية السعودية، إلا أنَّ ارتفاع معدلات النوعية الرديئة منها قد انعكس بالسلب على المنجز التنموي، فطبقاً لبعض الإحصائيات فإنَّ نحو (41.9%) منهم لا يحملون أية مؤهلات علمية، فيما لا تتجاوز نسبة حملة الدرجة الجامعية فأعلى (14.3%) من إجمالي هذه العمالة.
تمخَّضت عن هذه النسب العالية من فئات العمالة ذات المهارة المتدنية ثغرات فنية وهندسية صاحبت تنفيذ بعض المشروعات، مما أسهم في تبديدٍ نسبي للأموال والموارد العامة والخاصة.
وقد جرت ولا تزال مراجعات شاملة لجملة السياسات ذات الصلة بالعمالة غير السعودية، ووضع معايير وضوابط فاعلة تكفل الحدَّ من استقدامها، وتدعو الحاجة إلى تفعيل أمثال هذه المراجعات الدورية، بصورة أكثر حزماً، وأشدَّ ترشيداً، وفقاً لقاعدتي الحاجة والكفاءة.
وفي هذا المقام، أود الإشارة إلى قضية ذات صلة بالعمالة الوافدة، ظلت ولا تزال تؤرق المجتمع، تتمثَّل تحديداً في ظاهرة العمالة السائبة، أو الشاردة عن عقالها (إنْ صحَّ التعبير) التي تعمل خارج نطاق ومسؤولية الكفلاء.
هذه النوعية من العمالة في تزايد مطَّرد، تفترش الطرقات والميادين، والأحياء والمدن، يلحظها كل عابر وراكب، في أول النهار وآخره، غير مبالية بحسيبٍ أو رقيب، ورغم الجهود المبذولة من قِبل وزارة العمل، لمتابعتها، وتصحيح أوضاعها، فإنَّ صداها لا يزال يتردد بقوة في كل شارع وحي ومدينة.
إنَّ الإشكالية في تصوري تكمن أساساً في سلوكيات الكفلاء ذات البُعد الضيق، والأنانية المفرطة، التي لا تعبأ بمصالح الناس والمجتمع على وجه العموم، حين تخالف أنظمة الدولة، وتعبث بقواعد العمل، وتنتهك اللوائح والتعليمات، وتسعى إلى استغلال النفوذ، وانتهاج أساليب الاحتيال، في سبيل تحقيق أكبر مكاسب مادية ممكنة، عبر القيام باستقدام العمالة دون الحاجة الفعلية إلى خدماتها، ثمَّ وبدون أدنى مسؤولية وطنية يُقذف بهم إلى داخل الأسواق والمدن والأحياء.
إنَّ قراءة هذه السلوكيات غير المنضبطة، وتحليلها، تعكس جملة من الحقائق والنتائج على أصعدة عدة، من أبرزها:
- افتقاد أصحاب هذه السلوكيات لمعايير المواطنة والانتماء لتراب هذا الوطن العزيز، التي تفرض عليهم احترام أنظمته، والمحافظة على مصالحه وأمنه واستقراره.. وبما يُعد كذلك مخالفة شرعية واضحة، إذ من القواعد الشرعية المقررة أنَّه (لا ضرر ولا ضرار) و(درء المفاسد مُقدَّم على جلْب المصالح) فلا يجوز أن تطغى مصلحة الفرد على مصلحة المجتمع، وحق الفرد في الكسب مقيد بما يتصادم مع الشرع، أو بما يلحق الضرر بالأمة والمجتمع.
- المخالفة الصريحة لنظام العمل السعودي الصادر في عام 1426هـ، وخصوصاً ما يتعلق بالمادتين (38) و (39) من الباب الثالث منه (توظيف غير السعوديين).
فالمادة (38) نصَّت على أنَّه (لا يجوز لصاحب العمل توظيف العامل في مهنة غير المهنة المدونة في رخصة عمله، ويحظر على العامل الاشتغال في غير مهنته قبل اتخاذ الإجراءات النظامية لتغيير المهنة)..
كما نصت المادة (39) على الفقرتين التاليتين:
- لا يجوز - بغير اتباع القواعد والإجراءات النظامية المقررة - أن يترك صاحب العمل عامله يعمل لدى غيره، ولا يجوز للعامل أن يعمل لدى صاحب عمل آخر، كما لا يجوز لصاحب العمل توظيف عامل غيره.
- لا يجوز لصاحب العمل أن يترك عامله يعمل لحسابه الخاص، كما لا يجوز للعامل أن يعمل لحسابه الخاص.
- تعريض (منظومة الأمن والقيم والأخلاق المجتمعية) لمخاطر جمَّة ناشئة عن انخراط عناصر من هذه العمالة الشاردة عن عقالها، في أعمال وأنشطة ذات طبيعة إجرامية منظَّمة، وتشكِّل في مجموعها قنابل موقوتة، موجهة إلى عناصر استقرار المجتمع وأمنه وقيمه.. فلا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال دورها في اطراد زيادة جرائم القتل والسرقة والتزوير والتعدِّي على الأعراض، وممارسة شتى أنواع المنكرات والمتاجرة بالمحرمات.
على أية حال، تسعى وزارة العمل حثيثاً للتغلب على هذه الإشكالات والمعوقات، رغم أنَّها تعمل في ظل ظروف ومعطيات معقدة، وتحديات جمَّة، ومصالح متضاربة، انعكست على آلية الأداء وحيويته، إذ اتسم في بعض الأوقات بالبطء أو التردد في اتخاذ القرارات.
في إطار هذه المساعي، وفي الأسابيع القليلة الماضية اتخذت الوزارة بعض القرارات أو التوجهات ذات الصلة بترشيد استقدام العمالة، وإعادة هيكلة نظام الاستقدام ذاته، لعلَّ من أبرزها:
- إيقاف استقدام بعض فئات العمالة البنغلاديشية بما يخص المهن المنزلية والزراعية.
- العزم على إصدار تنظيم يختص بتحويل الكفالة الفردية للاستقدام إلى كفالة قانونية للشركات بحيث تتولى هذه الشركات تأجير الخدمة لعموم الراغبين.
وقرار الإيقاف الجزئي لاستقدام العمالة البنغلاديشية خطوة - وإن كانت متأخرة - في الاتجاه الصحيح، شريطة أن يتم تطبيقه بصورة جادة وفاعلة، حتى يمكن أن ينعكس أثره الإيجابي على مظلة الأمن المجتمعي، وأن يتلازم ذلك مع تفعيل الدور الرقابي لوزارة العمل لضمان التزام الجميع بنصوص نظام العمل بكل مواده البالغ عددها (245) مادة.
وأما ما يتعلق بعزم الوزارة على إصدار تنظيم جديد للكفالة، فإنَّ الأمر يتطلب أولاً تفعيل قرار تحويل مكاتب الاستقدام إلى شركات، الصادر قبل نحو (8) سنوات.. ثمَّ الإعداد والدراسة الكافية، التي تأخذ في الاعتبار المشكلات والإشكالات الراهنة، سواء بما يتعلق بحقوق وواجبات أصحاب العمل أو العمال، أو بما يتعلق بإيجابياته أو سلبياته المحتملة على سوق العمل السعودي، وقدرته على تفعيل آلية العرض والطلب، لتعكس أجوراً أكثر عدالة، تربط بين الأجر من جهة، والتفاوت النسبي في المهارات والقدرات الذاتية من جهة أخرى، وبما يصب في المحصلة النهائية في صالح العمالة ذات الكفاءة والفاعلية.
إننا بحاجة قصوى لحزمة من السياسات الفاعلة، لترسيخ ثقافة احترام نظم العمل ولوائحه، وتوسيع دائرة الأمن المجتمعي ومنظومة القيم الفاضلة، وتنظيف فضاء هذا الوطن من عبث العابثين، وصيانة مظهره الحضاري وقالبه الجمالي.