Al Jazirah NewsPaper Thursday  03/04/2008 G Issue 12971
الخميس 26 ربيع الأول 1429   العدد  12971
مَنْ يدفع تكاليف الإساءة للمقدسات الدينية؟
د. عبد الله البريدي(*)

المساس البذيء بالشخصية الاستثنائية العظيمة، شخصية محمد بن عبد الله، النبي العربي، - صلى الله عليه وسلم - على النحو الذي تم ويتم في بعض الدول الغربية؛ يستدعي أن نطرح تساؤلات جوهريةً، تغوص في عمق ذلك (الحدث الحرج).....

..... مَن الذي يدفع التكلفة (الباهظة) المترتبة على تلك الإساءات (الرخيصة)؟

- هل صحيح أن الحرية - بردائها الليبرالي - هي بالفعل من يتحمل تعويض خزانة هذه الدولة أو تلك عن فقد عشرات المليارات؟

- هل (الإيمان) بالأبعاد الفلسفية للحرية وحمايتها من أن تخدش هو الذي يدفع المتطرفين الغربيين إلى الإساءة لمقدسات الناس والاعتداء على حريتهم في أن يؤمنوا بما شاءوا بالطريقة التي يختارونها هم لأنفسهم؟

النظرة المتعمقة لاضطراب قيم ما بعد الحداثة في الفكر الغربي، وشيوع النظرات المادية في الإنتاج والاستهلاك والتفاعل الإنساني في المحيط الاجتماعي، تشير إلى تضعيف الرؤية التي تذهب إلى أن الهدف هو (الحفاظ على جناب الحرية) بنزعتها المطلقة، فالممارسة الغربية تشهد نزوعاً متزايداً نحو البرغماتية.. ومما يجعلنا نؤكد عدم معقولية (توريط) الحرية بتلك الجريمة ما يترتب عليها من الخسائر المتراكمة الكبرى التي تذيب أقوى الاقتصاديات.. إذن مَن الذي يدفع الفاتورة؟

التتبع لواقع الصحيفة الدانماركية الأم - جيلاند بوستن - التي تولت مباشرة (جريمة) الاعتداء السافر على النبي الأكرم يشير إلى أنها مارست في تاريخها الصحافي ألواناً من التأليب على الوجود الإسلامي في الدانمارك وذلك قبل ضلوعها في تلك الجريمة السوداء، فقد قامت (الشبكة الأوروبية ضد التمييز العنصري) بتحليل محتوى تلك الصحيفة لمدة ثلاثة أشهر وذلك في عام 2004, وانتهت إلى النتائج التالية: ( 53 % من الحوليّات، و55% من المقالات و77 % من الأخبار الموجزة و73 % من المنابر الحرّة و79 % من الافتتاحيات و81% من رسائل القراء, التي تناولت الأقليات الأجنبية كموضوع لها, عالجته بطريقة جد سلبية) (انظر، الجوانب المخفية من قضية الرسوم الكاريكاتورية للرسول محمد، بقلم ثييري ميسان، شبكة الصحافة غير المنحازة).

وفي هذا الصدد، يقول لنا (ميسان) - رئيس تحرير شبكة الصحافة غير المنحازة -: (إن الصحيفة لم تنشر الرسوم الكاريكاتورية تلك لتحرير رسامي الكتب الدانماركيين من الرقابة الذاتية المضنية, بل كعنصر مهمّ في حملة واسعة للتحريض على الحقد والكراهية)، ثم يكشف لنا (ميسان) سراً خطيراً حين يقول: (لقد أنيطت مهمة تنظيم مباراة الرسومات الكاريكاتورية إلى المسؤول عن الملحق الثقافي للجريدة - فليمنغ روز - والرجل يعرّّف نفسه ك (يهودي صهيوني) .. ولقد فضل (فليمنغ) الفرار إلى الولايات المتحدة والاستغاثة بشرطة بلاده حين تلقى تهديدات بالقتل جراء نشر الرسوم الكاريكاتورية موضوع النقاش)، ويذكرنا (ميسان) بأن (فليمنغ) هو أحد الأصدقاء المقربين لمنظّر المعاداة للإسلام (دانييل بايبس) وهو صاحب القول الشهير: (ليس كل المسلمين إرهابيين, لكن كل الإرهابيين مسلمون) (المصدر السابق).

ويواصل (ميسان) تتبعه المدهش لمسار الإساءة في دول أوربية أخرى، فيذكر أن صحيفة (فرنس سوار) هي أول صحيفة فرنسية تشارك في اقتراف المحظور بإعادة نشر الرسوم المسيئة للنبي العظيم، ويكشف لنا (ميسان) أن تلك الصحيفة كانت على حافة الإفلاس، ثم يشير إلى النفوذ الكبير للتأثير على الصحيفة من لدن تاجر السلاح (أركادي غايدماك) وهو رئيس (بيتار) - ميليشيا حزب الليكود الصهيوني - وهو مرشح لعمديّة مدينة القدس. وبعد نشر تلك الصحيفة للرسوم البذيئة بادرت صحيفة أخرى هي (شارلي إيبدو) بإعادة نشر الرسوم البذيئة.

وهنا نعاود التساؤل: هل الحرية هي من يدفع تكلفة البذاءة؟ أم ثمة أطراف أخرى متورطة؟

كل ما سبق يؤكد أن هناك منهجيةً يُراد لها أن تأخذ طريقاً تصعيدياً يسخّن الأوضاع ويوتّر العلاقات بين الغرب والإسلام.. المؤشرات السابقة وأمثالها تؤكد أن هناك بالفعل من يدفع تلك التكاليف الباهظة (غير المبررة)، ليقنع الناس بضرورة التخلي عن المليارات من الدولارات مقابل شيء اسمه (الحرية)، أو يسكتهم بالإغواء أو التهديد، فلمصلحة مَن يتحمل الإنسان الدانماركي البسيط كل تلك الخسائر؟ أهو يعي تلك الشبكات والعلاقات المعقدة وتلك الأهداف القذرة؟ أجزم بأن هناك تغييباً للتيار العقلاني في الغرب في هذه الحملة، وهذا التغييب نتحمل نحن جزءاً من مسؤولية بقائه أو تعاظم أثره السيئ على مجمل الأوضاع، فهل نخرج عن دوائر الانغلاق ونمد أيدينا إلى أولئك الأصدقاء؟ إذن الأمر أبعد ما يكون عن قيم الحرية المزعومة من قبل تلك الشخوص والمؤسسات المتطرفة، فهذا الرئيس الفرنسي السابق (جاك شيراك) يقول إن فرنسا العلمانية تحترم الديانات والعقائد وذلك في معرض تعليقه على تلك الرسوم المشينة، وهنا نكون قد ظفرنا بطرف من الخيط الذي يوصلنا إلى الجناة الحقيقيين.. إنهم من يريد لنظرية (صراع الحضارات) ونظرية (الفوضى الخلاقة) أن تتحقق وتصدق نبوءتها على أرض (الميعاد) وفق الأبعاد الأيديولوجية التي يؤمنون بها، فتيار المحافظين الجدد المدعوم بجبهة المتصهينين هو مَن يمول ويدعم تلك الإساءات البذيئة ويوفر لها إطارها القانوني والمؤسسي، ولو كانت على حساب قدسية الأديان بشعائرها ورموزها .. ولو كانت ناسفة لقدسية الحرية ومبادئها وخياراتها .. ولو أدت إلى انتهاك كرامة الشعوب !!

ولكن، هل يعني ذلك مجاراتهم في ذلك السلوك غير المتحضر بأعمال تهور أو إساءة مضادة؟ كلا؛ فقوتنا الحقيقية تكمن في إيماننا وقيمنا ووعينا.. وكل ذلك يدعونا إلى أن نتعامل مع هذا (الحدث الحرج) بذكاء؛ فنحدد بكل دقة (الفعل الحرج) في (الزمن الحرج) في (المكان الحرج) مع اصطيادنا ل (المكون الحرج)، في قنوات متحضرة متضافرة متكاملة، من شأنها تفويت الفرصة على أولئك الأشرار الطامحين لتأجيج الصراعات بين الحضارات، فمنظومتنا القيمية لا تتوافر على نزعات أو رغبات في الصراع مع هذا الطرف أو ذاك، ولكي ننجح فعلاً في تفويت الفرصة عليهم وعلى بعض قصار النظر لدينا يتوجب على السياسة العربية أن تقوم بدورها المنتظر وتتخلى عن الأدوار الهزيلة التي ظهرت بها، فضلاً عن الدور المحوري للعلماء والمفكرين والتربويين، كل ذلك في طرق مبتكرة نمارس عبرها الذب الرشيد عن الرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم -، والتعريف الذكي بعظمته ورحمته وشفقته على الإنسانية جمعاء .. والأهم من ذلك كله أن نحبه بصدق، فنكون من الصادقين.. في أقوالنا وأعمالنا .. سرها وعلانيتها، خاصها وعامها!



beraidi2@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد