(1)
** غامت رؤى المشهد الرياضي على صاحبكم؛ فلم يعد يفرِّق بين الدوري والكأس، ولا بين أي دوري وأي كأس؛ فقد تعددت الأسماء، وتتالت المسميات، وبتنا لا ندري: أَهذهِ المباراة امتداد لمباريات الأمس،
.. أم ضمن سلسلة أول من أمس، أم تجيء إرهاصاً لمباريات أسبوع يجيء.
** لا يدري، ولا يُهمه أن يدري، ويعجب كيف يصنعُ بنا الزمن؛ فيذكر أنه كان يتمدد على العشب في الرصيف الأوسط انتظاراً لفتح ملعب رعاية الشباب بالملز، وربما حمل كتابه الجامعي معه كيلا يفوته التحصيل من جانب، وليستمتع - في الوقت نفسه - بمشاهدة المباراة، وكان يحضر تمارين فريقه المفضل بشكل دوري، وربما قاده الهوى لحمل العَلَم، وزيارة النادي، ومتابعة التصريحات والتحليلات والتسجيلات.
** مضى ذلك الزمن، وما عاد ذا شوق قديم، ولا آبهاً حين يلقى العاشقين في بيته وسوقه وبين أصدقائه.
** لعله العمر، أو المشاغل، أو الاهتمامات، أو الاحتجاج الصامت على حال الكُرة، أو لعلها ذلك كله؛ فقد غاب دور مهم أسهمت فيه الأندية تثقيفاً وتوعيةً، وآن له أن يعود.
(2)
** تنافست الأندية في فترة التسعينيات الهجرية -وربما قبلها- في تقديم نشاط ثقافي نوعي، وكانت الإذاعةُ تنقل احتفالات الأندية ومناسباتها، وخُصِّصَ لذلك برنامج أسبوعي أشرف عليه الأستاذ علي آل علي -رحمه الله-، وسجل فيها الدكتور حسين نجار حلقات من برنامجه (حوار حول المايكرفون)، ويذكر أنه شارك -في ذلك الزمن المبكر- بنقاش حول الشعر بين الصنعة والتصنُّع، ويدرك أنه لم يفهمْ الموضوعَ كثيراً، غير أنهم أحسنوا الظن إذ اختاروه، فردد لهم أو معهم منتقداً البيت الذائع المعبِّر عن التنميط والتقليد والركون:
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعلُ مثل ما فعلوا
** كما كان لبرنامج (في الطريق) وجوده المكثّف بين شباب الأندية والمراكز الصيفية، واستطاع طلاب المرحلة الابتدائية والإعدادية أن يقنعوا الكبار (بدر كريم ،حسين نجار، محمد الرشيد، علي العلي، علي داود، وغيرهم) عبر التخاطب الشفاهي المركّز المتكئ على لغةٍ وأسلوب ومعلومة نفتقدها في جيل اليوم الذي يبدو حظُّه من الذكاء والمهارات أكبر لكنه يفتقد التوجيه، وعلينا أن نؤمن أن لكل زمان دولته ورجاله.
** في تلك الفترة كانت حفلاتُ الأندية ومحاضراتها ومسرحياتها وسينماها ومنتدياتُها متفوقةً على ما تقوم به الأندية الأدبية وفروع جمعية الثقافة والفنون اليوم، ويستعيد ندوةً حاضر فيها (الإخوة الهذيل) الأساتذة محمد وحمد وأحمد - الذي يرأس الآن لجنة المسرح السعودي-، وقد وقفوا مع الشباب - وهم في قمة نجوميتهم - ليشرحوا لهم في المركز الصيفي فنيات التمثيل.
** وُجد المسرحُ رغم أن لا إمكانات، ومثل رجالٌ دور المرأة الشابة والعجوز، وكان الشيخ الإمام عبد الرحمن السعدي 1307-1376هـ قد حضر مسرحية في المدرسة العزيزية بعنيزة قبل أكثر من ثمانين عاماً، كما أن الفنون الأخرى (الموسيقى والغناء والتشكيل) كانت حاضرة، وما تزال صورُها ماثلةً في أذهاننا، فنتذكر كلماتها وألحانها ومطربيها وموضوعاتها، ما يجعل متغيرات ما بعد (حركة جهيمان 1400هـ) حافلة بالفجوة المعرفية، والتشدد الفكري، لدرجة عدم التصديق بما كنا عليه ثم صرنا إليه.
** وفي موسم ثقافي واحد استطاع أحد الأندية الصغيرة استقطاب بضعة أسماءٍ كبيرة، كان فيها: غازي القصيبي، ومحمد عبده يماني، وحسين الجزائري، ورضا عبيد وسواهم، وازدحمَ الناس رغبةً في الاستزدادة والتواصل والاستمتاع.
(3)
** إشاراتٌ غير عابرة لما تبدو مبررات معقولةً لانصراف صاحبكم وأمثاله عن الأندية التي باتت الرياضة البدنية -وتحديداً كرة القدم- هي مبتدأها كما هجيراها؛ ليبقى الاستفهام المنطقي: أنحنُ على حق أم أن دور الأندية الثقافي-الاجتماعي قد توارى لوجود مؤسسات أخرى قادرة على أن تقوم باختصاصها، وتتفرغ الأندية لمهامها..؟.
** تبدل الزمن لا ريب، وباتت أجهزة وزارات الثقافة والتربية والتعليم العالي مطالبة بأن تؤدي الدور الذي تنازلت أو أُنزلت عنه الأندية، وبصورة أكبر كي تتماشى مع الثورة المعرفية والثقافية التي يشهدها العالم، وألا تترك المجال مقتصراً على اجتهادات الأندية الأدبية وجمعية الثقافة والجامعات والمراكز الصيفية في ظل عدم التوازن الذي تقدمه الثقافةُ المنبريّة والفضائيّة والحاسوبيّة غير الرسميّة التي سيطرت على كثير من قنوات التواصل الشعبيّة فأثّرت في المحاكمات والأحكام، واحتكرت لفئاتٍ توغل فيها التطرف والتطرف المضاد ما قد يهيئ الجماهيرَ داخل المجتمع المتجانس لصدامات قولية قد تتحول غدا إلى صدامات عمليّة.
** ثمة فراغٌ في القنوات الشبابيّة المعتدلة التي لا تمارس دور الوصاية المطلقة المؤمنة بالأتباع والأشياع، أو بفكر الشيخ والمريد، وإذ لم تستطع الأجهزة المعنية أن تجتذب الشباب إليها، ما جعلهم مرتهنين لثقافة رسمية ذات تأثير محدود، وأخرى غير رسمية ذات نفق ممدود؛ فإن استعادة دور الأندية الرياضية (الثقافي والاجتماعي) الغائب أو المغيب، ضرورة وسط التجاذب المؤدلج، كما بات التفكير في إنشاء أقسام نسويُّة تهتم بهذه الأنشطة أمراً لا يحتاج إلى تبرير.
** لعل الأندية تفكر جدياً بواقعها المتراجع، ولعلها لا تنسى أن كثيراً من الشباب قد انصرفوا عنها لتشجيع ومتابعة الفرق العالمية، ما يُضفي عاملاً جديداً قد يدفعها إلى إعادة النظر في خطواتها الآنيّة وتخطيطها المستقبلي.
(4)
** يقودنا الحوار نحو دور مخبوءٍ للمجتمع المحلي لم يُمارسه بعد، حيث لا تزال البنية الاجتماعية التحتية غير مكتملة؛ بما تشمله من مرافق وأنظمة؛ إذ نحتاج إلى خدمات كما إلى تجهيزات، وتعوزنا تنظيمات مثلما توجهات، وحتى في المجتمعات التي لا تشكو صراعات فكرية فإن نقص هذه العناصر سبب في تدمير البناء الاجتماعي أو خلخلته على الأقل.
** وبدلاً من أن ينشأ العمل الاجتماعي (الرسمي والتطوعي) وفق رؤى ذات مسار يتأثر بسيطرة فئة أو جماعية أو منهج؛ فإن مكونات المجتمع المحلي تهتم -في البيئات الصحية المتطورة- بتوفير خدمات راقية للشباب، ورعاية متزنة للطفل، وخلق بيئةٍ نظيفة لا تتأثر بأهواء أو مصالح أو سلطات أبويّة لم تنفك عن إيمانها بتمثلها الحكمة وتمثيلها الريادة، رغم امتثالها للفكر الذي يحارب التجديد.
** الأنديةُ مكونٌ مهم من مكونات المجتمع المحلي، ومن المهم تعميمُها داخل الأحياء السكنية، وترك الكرة وعقود اللاعبين وصخب الصحافة لفرق منافسات الدوري والكأس وما جرى مجراهما؛ بحيث يغلّب الجانب الثقافي/الاجتماعي/الخدمي الموجه للفتيان والفتيات بلغة تراعي البناءَ السلوكيَّ الفرديّ والجمعي، وبما يعزّز الأمنَ، ويقوي العلاقات، وينفي التأثير المباشر لفكر أحادي أثبتت الأيام مسؤوليته عن وقوفنا أمام خط المرمى، وعجزنا عن تسجيل الأهداف، وارتداد الكرة -أحياناً- لتستقبل شباكُنا الهزيمة المرة.
* الحياة كرة.
E:Mail:IBRTURKIA@Hotmail.com