كنت طالباً في السنة الرابعة من كلية الطب وكان سكني في المدينة الجامعية مع اثنين من الزملاء الأول من الدراويش - أمثالي- اسمه عبدالحنان وكان من أصل كردي من بلدة عفرين الواقعة في شمال سورية ويدرس في كلية العلوم قسم الرياضيات.
أما الزميل الثاني فكان شاباً من الأثرياء يدرس في كلية الزراعة وكان قد سبق له السفر إلى كندا لدراسة الصيدلة ولكنه ما لبث أن عاد بعد شهر زاعماً أن الجو هناك بارد جداً وغير مناسب له إطلاقاً.
وهكذا كان في غرفتنا حزبان: حزب المحافظين وحزب العمال وقد تقع أحياناً مشادات كلامية بين الطرفين خصوصاً حينما نذهب لشراء التموينات الأسبوعية فكان شهم -وهذا اسم صديقنا الارستقراطي- يصر على الموز والمكسرات والعسل وما إلى ذلك من أشياء ترفيهية في حين يتذمر عبدالحنان من ذلك ويقول: نريد أن تكفي الميزانية لآخر (الشرم) يا (شهر) وهو يقصد طبعاً: آخر الشهر يا شهم.. ثم تنتهي المشادة بالاعتذارات خصوصاً من قبل عبدالحنان الذي يزعم بأن سوء التفاهم الحاصل يعود لضعفه باللغة العربية.
ومن الجدير بالذكر أن عبدالحنان كان من المخضرمين في كلية العلوم وكان الانتقال من صف لآخر يستغرق منه ثلاث سنوات على أقل تقدير ولم يكن ذلك بسبب غباء منه أو قلة دراية بل لكونه يشتغل - بجانب الدراسة- لإعالة أسرة مكونة من اثني عشر شخصاً بعد أن توفى والده فورث منه مسؤولية إعالة هذا الجيش!.. ولم يكن عبدالحنان يضيق بذلك، بل كان يقوم بالواجب خير قيام والابتسامة لا تفارق وجهه، لكن ما كان يضايقه فعلاً سؤالان يتكرران يومياً: لم أنت مقصر في الدراسة؟ ولم لا تتزوج وقد جاوزت الثلاثين؟ وكان عبدالحنان يمسك عن الإجابة في معظم الأحيان أو تصدر منه إجابات تتعلق بحالة المزاج لديه فإن كان بحالة كآبة قال للسائل: هذا ليس من شأنك، أما إن كان مبسوطاً فيجيب بمرح: لم أتزوج لأني مقصر في الدراسة!
لكن عبدالحنان قرر أن يضع حلاً نهائياً لمشكلته المستعصية خصوصاً وأن الدراسة الجامعية يبدو أنها ستطول... وهكذا ذهب إلى عفرين وطلب من أمه أن تبحث له عن عروس مناسبة ضمن الإمكانات المتاحة وأخبرها بأنه لن يزور البلدة ثانية إلا كي يقرأ الفاتحة مع والد العروس.
وتمر الأيام... وعبدالحنان ينتظر دون جدوى... وصار الزملاء يقولون له ساخرين: يبدو أن الوالدة لم تجد عروساً ترضى بك!
ولا أريد أن أطيل في شرح مشاعر الألم والإحباط التي عانى منها عبدالحنان فقد جاء الفرج بعد ستة أشهر.. ووجدت أمه أخيراً العروس المناسبة، ولخوفها من ضياع الفرصة الذهبية فقد حضر كبار العائلة وقرؤوا الفاتحة مع والد العروس وحددوا موعد الخطوبة بعد شهر وهي الفترة اللازمة لتأمين ما طلبه والد العروس من مال وذهب وسوى ذلك وكان وقع المفاجأة على عبدالحنان كبيراً فصار يذرع الغرفة جيئة وذهاباً وهو يردد: فرجت.. فرجت.. فرجت وكنت أظنها لا تفرج.
ولمح شهم (صديقنا الارستقراطي) الفرحة والأمل في وجه عبدالحنان وهمس في أذني: ما هذه الخيبة التي يفرح لها صديقنا المنتوف؟! لقد وضع على كاهله مسؤولية ثقيلة وهو لا يكاد يقوى على حمل المسؤوليات الأخرى... فقلت له: ربنا يعينه.. عندئذ حول شهم وجهه فجأة إلى عبدالحنان (وكأن فكرة خبيثة قد خطرت بباله) وقال وعلى وجهه علامات الاستغراب: أظن أنه من الضروري الاحتفال بهذه المناسبة السعيدة والاستثنائية وإقامة حفلة -ولو صغيرة- على شرف الخطوبة.
هنا بدرت من عبدالحنان نظرة ذات معنى وكأنه يريد القول: لقد فهمت ما ترمي إليه وأنا مستعد للمبارزة!... ثم قال: أنتما مدعوان للعشاء يوم الجمعة المقبل، وادعيا من تريدان أيضاً من الزملاء فالدعوة مفتوحة للجميع.
وخرج عبدالحنان وبقيت مع شهم وكل منا ينظر للآخر، وبعد صمت طويل قال شهم: لقد ورط عبدالحنان نفسه فيما لا طاقة له به ليثبت لنا أنه كريم، فقلت له: أليس هذا بسببك؟ قال: كنت أداعبه فقط وما توقعت أن يورط نفسه هكذا... كيف له أن يغطي نفقات العشاء لعشرين أو ثلاثين شخصاً. ثم أردف: أليسوا ثلاثين؟ قلت: من يدري.. ربما أكثر.
قال: دعنا إذن نعد قائمة المدعوين، قلت: بل قل قوائم... قائمة الطب.. قائمة العلوم.. وقائمة الزراعة.. بالإضافة لمن يستجد ومرت الأيام التالية بسرعة... واقترب اليوم الموعود، وكنا نكرر السؤال على عبدالحنان فيما إذا كان يرغب بتأجيل الحفلة أو إلغائها فيقول باستنكار: ولم ذلك؟! كل شيء جاهز، والحفلة في موعدها... ولكن ما نستغربه هو عدم وجود دلائل على تلك الجاهزية... وكانت القائمة تتسع شيئاً فشيئاً.. عشرين.. ثلاثين.. أربعين.. وأخيراً خمسين... وقال عبدالحنان: حسناً سوف أعمل حسابي على ذلك.
وجاء يوم الجمعة الموعود...
رن جرس المنبه في تمام الساعة السابعة صباحاً، وسمعنا عبدالحنان يقول بصوته العسكري الخشن: أليس من المفروض أن تسهموا في التحضير للحفلة وأنتم أقرب الناس للعريس؟ على أية حال سوف أعطيكم نصف ساعة لغسيل الوجه وحلاقة الذقن وسوى ذلك ثم نبدأ العمل معاً.
بعد نصف ساعة بالضبط كنا نقف استعداداً للبدء، والحقيقة أننا كنا متلهفين لمعرفة ما سيفعله عبدالحنان وكيف سيحل المسألة وينفذ الحفلة.
فتح عبدالحنان خزانة الطعام، وبدأ يخرج محتوياتها والتي في الحقيقة أحضرها ليلاً ونحن نيام كي نفاجئ بوجودها في الصباح.
نظر عبدالحنان إلى وجوهنا وركز في وجه شهم -الذي كان أكثرنا دهشة- ثم قال: هذه هي المواد الأولية وعليكم الآن تكسير ثلاثة أدراج من البيض ثم فرم الطماطم والخيار والبصل والفلفل أما أنا فسوف أتفرغ للقلي..
وارتسمت الدهشة ثانية على الوجوه وخرجت من الأفواه صيحة واحدة: جظ مظ؟!! فأكمل عبدالحنان: نعم، وبجانبه سلطة... وهنا عبس صديقنا شهم وصار يدمدم بكلمات غير مفهومة أما الداعي فضحك ضحكة عريضة جداً... ولم يكترث عبدالحنان بكل هذا بل تابع بصوته العسكري الأجش: هيا إلى العمل يا زملاء، وليكن عملكم متقناً ما أمكن كما قال الشاعر: إن للمتقن عند الله والناس ثواباً.
ومضت ساعات طويلة... وسالت الدموع من المآقي بسبب البصل والفلفل.. وكان عبدالحنان يشتغل بالقلي حيناً ويقوم بتزيين الغرفة حيناً آخر.
في تمام الثانية ظهراً توافد المهنؤون إلى المكان وكانت الحفلة جميلة والطعام شهياً ولذيذاً وكان شهم لا يزال مستغرباً يهمس في آذان من يعرفهم من المدعوين: جظ مظ؟!! احتفال بالخطوبة على جظ مظ؟!!
ويبدو أن عبدالحنان أدرك ما يحدث فوقف بين المدعوين خطيباً وقال: زملائي الأعزاء... أرجو أن تعذروني إن قصرت فأنتم أكثر من يعرف ظروفي، وشكراً لكم من القلب على تلبية الدعوة.. وقد سمعت البعض يتساءل لماذا كانت الدعوة على الجظ مظ.. وفيما يلي بيان السبب:
أيها السادة.. لقد عانيت كثيراً حتى حصلت الخطوبة، فاستلفت ثمن الذهب من عمي... والمهر من خالي.. وتكاليف الخطوبة من البنك... كل هذا والأمر لازال في مرحلة البدايات. إنها خطوبة جظ مظ ولابد للاحتفال بها من عزومة على أكلة جظ مظ (أي شكشوكة).
ABUSALEEM960@HOTMAIL.COM