ضآلة مساحة وقت الفراغ, وانكماش طاقته الزمنية - بحسبه البيئة الأكثر تأهيلاً لنمو حشرات الانحراف في شتى ضروبه - لدى فرد ما آية على سمو التفكير, ونضج الإدراك, ومؤشر جلي على زخم عقلي مطرد؛ تتعذر معانقة آفاق المجد وتجسيد تمظهرات
النجاح، والارتقاء في معارج التقدم من غير التوافر على مبدأ الإحساس المتعاظم بالمسافات الزمانية بحسب ذلك منتج حضاري يجري عبره توظيف أبرز الموارد لتجسيد التسامي في أعلى معانيه. الآلية التي نمضي بها أوقات فراغنا هي إفراز طبيعي للقالب الذي نطل عبره على أوقاتنا.
هذا الشكل بدوره ليس إلا انعكاساً تلقائياً للأسلوب التربوي الذي تلقيناه منذ نعومة أظفارنا, وهو أيضاً تعبير جلي عن نوعية الوعي الذي يحكم سلوكياتنا العامة؛ تنظيم الزمن الفيزيائي, وبرمجة خطوطه, فرع عن الشعور المتزايد بقيمته, ونتيجة طبيعية لوعي منطقي يعي وعلى نحو عميق أن النجاح في برمجة الوقت يمنح حياة الفرد معنى, ويضفي عليها لوناً من الانسجام والتماسك, ويسهم وعلى نحو كبير في تفعيل أداء الفرد وتحسين إنتاجيته وتنمية الأبعاد المتباينة في ذاته.
إن العلل التي تكمن خلف إهدار الزمن متنوعة من أبرزها: عدم تموضع غاية محددة وآمال مستقبلية يجري الإعداد لتحقيقها، تحديد الهدف وضبط مدى زمني, وتحديد طاقة وقتية لتجسيد الإنجاز, والتقيد وعلى نحو صارم بذلك التحديد شرط أساس لتصويب التعاطي مع الوقت, وبالتالي الإنفاق الموضوعي لمراحله.
تواضع الهدف المتوخى ومحدودية الطموح المنشود كما هو الحال في الأسر المحطمة والبيئات المرتبكة هو الدافع الأول لإهدار معظم البعد الزمني وقتل ملامحه العامة. إن دناءة الهمة وتراكم الكسل من أبرز الأدواء التي تفتك بالوقت وتنخر في هيكله, والمتسكعون خارج التاريخ لديهم مواهب نوعية في القدرة على وأد الزمن وإنفاقه في غير سياقاته المعتبرة, الفرد الذي يسير وفق السياق الصحي الصحيح, مترع برنامجه اليومي بوفرة ملحوظة من المسؤوليات والالتزامات والأنشطة التي يوظفها في تنمية أبعاد الأنا وتطوير إمكاناتها على حين أن الفرد ذا السوية المنخفضة عطاء يتعاطى مع لحظات وقته بتقلبه على مخدعه, أو بالمكوث أزماناً طويلة على قارعة الطريق وتزجية الوقت بأحاديث لهو فضولية حتى ساعات الصباح الأولى, كثير من الناس تقلصت الاهتمامات المعرفية لديهم, وتضاءلت طموحاتهم, وبالتالي ازدادت مساحة وقت الفراغ عندهم, وتولد لديهم نتيجة لذلك كثرة القيل والقال, وحب الفضول الشديد, وصار همهم مراقبة الآخرين, ورصد تحركاتهم, ومحاولة انتهاك خصوصياتهم, والتطلع إلى معرفة أوضاعهم!!
إن سوء التنظيم وعشوائية التعاطي من أبرز البواعث المصادرة للوقت. ولو تأملنا لألفينا أن الأنشطة السوقية المبتذلة السفسافة المرشحة لتبديد الزمن أكثر من الأعمال الفعالة التي لها مردودها الحيوي وتعود علينا بالجدوى؛ كثير من شؤوننا اليومية - لو عمقنا النظر- يستحسن التجافي عنها أو التقليل منها إلى أدنى درجة ممكنة, وضرب آخر من الملائم أن نوكل به غيرنا.
تمضي معظم أوقاتنا في أشياء كان يغني عنها ويقوم مقامها بعث رسالة أو إنشاء محادثة هاتفية أو دفع مقابل مادي يوفر لنا كثيراً من الأوقات المهدرة, ترسخ المفاهيم الحضارية لدى امرئ مّا تؤمن له كفاءة نوعية في التعاطي مع الوقت يندفع على إثرها للتفاني في سبيل إغناء حياته وتوظيفها على النحو الأكثر صواباً مهما كانت تبعات ذلك.
إن كل الذين أسهموا في صنع الحضارة الإنسانية, وفي صياغة الرقي العام, كان لديهم حسن إدارة للوقت, وإقبال على كل ما من شأنه أن يضيف إضافة نوعية إلى عقولهم كالكتاب ومصادر المعرفة المتعددة, كما يصرح بذلك (أديسون) مخترع الكهرباء بقوله: (إنني لم أتلق تعليماً جامعياً ولكنني علمت نفسي بنفسي من خلال القراءة في أوقات الفراغ) ومثله الزعيم الأمريكي (إبراهام لنكولن) الذي كان يمضي سحابة يومه - في سن الصبا - في القراءة في الآن الذي كان أقرانه يبددون طاقاتهم, ويلوذون باللهو والعبث.
Abdalla_2015@hotmail.com