في حوار سياسي على إحدى الفضائيات بعد الانتخابات الإيرانية بين ممثل للجناح الإصلاحي أحد مستشاري الرئيس الإيراني السابق خاتمي وممثل للجناح المحافظ في إيران، شكا الإصلاحي من أن أي ثناء أو دعم خطابي يأتي من الإدارة الأمريكية على الإصلاحيين في إيران يكون وبالاً على الإصلاح،
لأن الاتهامات تلقى جزافاً على الإصلاحيين من فريق المحافظين الذين يؤلبون الرأي العام الإيراني المشحون ضد السياسة الأمريكية، فيتحول الأمر إلى أن يصبح الإصلاح نفسه مشكوك فيه بإيران وينمو شكّ في ولاء الإصلاحيين لبلدهم، مما كان له التأثير الكبير في توجيه غالبية أصوات الناخبين نحو المحافظين.
بالمقابل عندما كانت إيران برئاسة خاتمي كانت الإدارة الأمريكية تقف أيضاً ضدها مثلما هي الآن ضد إيران في ظل سيطرة المحافظين برئاسة أحمدي نجاد.. فالموقف الأمريكي مضاد لإيران في كلتا الحالتين ولكنه أشد ضرراً على الإصلاحيين.. والمحصلة النهائية في منطقة الشرق الأوسط أن المشروع الأمريكي دعم المحافظين المتشددين وأضر أبلغ الضرر في مشاريع الإصلاح والانفتاح والتنوير..
قبل بضع سنوات كانت مشاريع الإصلاح واعدة تلوح بالأفق في المنطقة العربية بعد أن استنفذت كثير من الحركات الإسلامية المسيسة إمكاناتها وبعد أن اكتملت دورة نموها أو سيطرتها على الشارع العربي في عقدي الثمانينات والتسعينات، وحان لها أن تشيخ مثلما حصل من قبل للتيارات القومية. وكانت تلك الحركات الإسلامية المسيسة تلقى دعماً أمريكياً هائلاً، حين كانت الإدارة الأمريكية ترى في تلك الحركات من أهم وسائل محاربة المد اليساري الذي حاول أن يملأ الفراغ الذي كونه نكوص التيارات القومية التي تزعمت حركات التحرر الوطني والاستقلال في الخمسينات والستينات..
مشاريع الإصلاح الواعدة لقيت ترحيباً حذراً أو على الأقل عدم ممانعة من الأنظمة العربية التي شعرت أن الإصلاح أصبح خياراً استحقاقياً تفرضه المرحلة، وفي نفس الوقت لم تكن تلك المشاريع تهدد كيانات الدول العربية وأنظمتها مثلما كانت تفعل الحركات القومية واليسارية والإسلامية.. لقد بدت مشاريع الإصلاح أقل تسيساً وأكثر نضجاً في مطالبها أو أكثر واقعية..
ركزت مشاريع الإصلاح على التغيير من خلال الفكر التنويري السلمي والانفتاح والشفافية والمكاشفة والنقد الذاتي وقبول الرأي الآخر، ودعم مؤسسات المجتمع المدني ونشر التوعية بحقوق الإنسان وتحديث أنظمة القضاء والتشريع، والمشاركة الشعبية في القرار وبناء الدولة الحديثة.. كان الحراك الإصلاحي يبدو بطيئاً وغير منظم، لكنه واعد مع أخطاء طبيعية ومنغصات ضرورية تقوي هذه المشاريع ولا تضعفها.. حتى أتت المشاريع الأمريكية للمنطقة، أو بالأحرى أتت الجيوش الأمريكية جالبة مشاريع الخراب..
أول المشاريع الأمريكية كان في أفغانستان ولم ينتج عنه غير الفشل واستمرار المنطقة هناك بالصراعات.. تلاه احتلال العراق بطريقة مسرحية، ظنوا أن الجيوش التي لا تتقن غير القصف والقتل يمكنها أن تعطي دروسا في الديمقراطية وحقوق الإنسان.. قالوا بالنموذج الديمقراطي المدني فرأينا مليشيات دينية وزعامات سياسية ترتدي العمائم وتصادر إحداها الأخرى.. قالوا بإسقاط نظام دكتاتوري فأسقطوا الدولة بكاملها عندما حلوا الجيش والشرطة وتلاهما سقوط كافة المؤسسات الأخرى.. أنشأوا حكومة مؤقتة لإدارة شؤون البلد فكانت وصفة للإثارة الطائفية والقومية والاحتراب الداخلي وتكريس الخلافات عبر نظام المحاصصة على أساس مذهبي وعرقي وليس على أساس وطني مدني.. وأخيراً دعوا للمصالحة الوطنية وحرموا دخول قطاعات كبيرة من المشاركة..
ما الذي نتج في المنطقة من هذه المشاريع الأمريكية؟ عدا الدمار الهائل نشأت حالتان أساسيتان.. الأولى هي استفزاز المشاعر الإنسانية والدينية والقومية للرأي العام في المنطقة مما جعله متوتراً ومهيئاً للانفجار وللاستقطابات الحادة وإحياء الثارات القديمة المؤجلة، خاصة مع لعبة المحاصصة الطائفية والعرقية في العراق التي أوقدت حمى النعرات في المنطقة.. والثانية هو إزالة الخصمين اللدودين لإيران من شرقها طالبان أفغانستان ومن غربها صدام العراق واستبدالهما بالجيش الأمريكي.. وهذه الحالة الثانية أدت لوضع مزدوج لإيران، فمن جهة أراحها من هذين الخصمين، ومن جهة أخرى أفزعها تواجد الجيش الأمريكي على حدودها، بل وأفزع كثير من دول المنطقة.. ولكنه الآن فزع غير ذي بال بعد أن مني هذا الجيش بالفشل، مما مكَّن إيران من بسط نفوذ هائل لها في العراق، وزاد نفوذها في بعض دول المنطقة..
وإذا أخذنا في الاعتبار أن التوازنات في الشرق الأوسط قبيل الاحتلال الأمريكي كانت هشة في الأساس، وأن ثمة قضايا رئيسية لم تحل وعلى رأسها القضية الفلسطينية، والمسألة اللبنانية والكردية والصومالية والصحراء الغربية وقضايا الحدود والأقليات القومية والطائفية وبقايا حركات العنف والفكر المتطرف والتكفيري.. الخ.. وإذا أخذنا في الاعتبار العامل التاريخي المشترك بين الفكر التقليدي المحافظ والفكر الأصولي للجماعات الدينية الحديثة، وأزمة الهوية بين الأصالة والتحديث، بين المحافظة والإصلاح التي لم تحل.. وإذا أخذنا في الاعتبار فساد الإدارة البيروقراطية، وفشل التكنوقراط العرب في بناء المؤسسات الحديثة الفعَّالة، وفشل كثير من مشاريع التنمية العربية في مكافحة الفساد والبطالة والفقر والجهل والمرض..
إذا أخذنا في الاعتبار كل ذلك الوضع المتأزم سلفاً، والذي كان يبدو أنه في طريقه للحلحلة قبيل الاحتلال الأمريكي، تكون هاتان الحالتان التي أفرزهما الاحتلال (استفزاز المشاعر وزيادة النفوذ الإيراني المحافظ في المنطقة) مشجعة للاستقطابات والانقسامات العربية، ومعيقة للإصلاح ومشجعة لعودة الروح للفكر الأصولي المحافظ في المجتمعات العربية.. وتغدو مشاريع الإصلاح في المنطقة العربية مشكوكا فيها إزاء الهيمنة الأمريكية، وتغدو أيضاً ضعيفة أمام المد المحافظ الإيراني الذي يستدعي مدَّاً محافظاً معاكساً في المنطقة العربية.. فمن الطبيعي إذاً، أن تستغل الحركات الأصولية المسيسة هذا الوضع المثالي لها، وأن يجنح كثير من الدعاة المسيسين إلى التشدد وبمساندة ضمنية أو صمت الرضا من المجتمعات التقليدية اليائسة، ففي ذلك مواجهة لا واعية ضد المخاطر التي أفرزها الاحتلال الأمريكي وزيادة النفوذ الإيراني..
خلاصة القول إن الاحتلال الأمريكي في المنطقة أفرز أوضاعاً سياسية وعسكرية واجتماعية وثقافية أدت إلى حالة استقطاب حادة، وهيأت حالة نفسية في المزاج العام العربي والإسلامي للتوجس من كل تجديد أو إصلاح.. لأننا اعتدنا أن الأفكار التجديدية تأتي من الغرب، الذي نرى أنه يتمثل في أمريكا.. هذه الأوضاع تؤسس لحالة ذهنية تميل لوجهات النظر المنغلقة على الذات التي تتعرض للتهديد، وتؤجج أوار حمى الصراع وعودة الروح لجماعات التطرف والعنف والتكفير، وتنامي فكرة الصدام مع الآخر الداخلي والآخر الخارجي، مما يفضي في الأخير إلى ما يظهر من تراجع في حركة الإصلاح، وتضع الإصلاح والإصلاحيين في مأزق صعب..
alhebib1@yahoo.com