تعتبر الهندسة إحدى أهم العلوم الموجود وأقدمه على مختلف العصور لما تقدمه هذه المهنة من إنجازات ضخمة تخدم البشرية، وتمس احتياجات الإنسان الأساسية. وتفتخر الدول بقدرات مهندسيها على إنجاز المشاريع العملاقة وذات التقنية العالية إيماناً منها أنه لا يمكن لأي دولة أن تتقدم ما لم يكن لديها إرث هندسي قوي يمكنها من إعداد خططها المستقبلية بكل ثقة وعزيمة ويضمن لها بعد الله الاستمرارية لها ولأجيالها القادمة. وإعداد المهندسين ليس بالعملية السهلة حيث استحواذات هذه المهنة على اهتمام بالغ في جميع الدول ومنها المملكة العربية السعودية فقامت بإنشاء كليات الهندسة في مختلف التخصصات واستقطبت الجامعات أعضاء هيئات التدرس من كافة أقطار العالم وحشدت الجهود لإخراج نوعية من المهندسين المميزين القادرين على تحمل أعباء المهنة، وتعتبر كلية الهندسة بشكل عام من أصعب الكليات في الجامعات لما تحويه مناهجها من مسائل حسابية غاية في الدقة والأفكار، وتخرج الكليات أعداداً قليلة من المهندسين مقارنة باحتياج سوق العمل، حيث تضطر الدولة إلى استقدام أعداد كبيرة من المهندسين من أنحاء العالم للوفاء باحتياجات المشاريع التنموية.
ولكن ما مصير المهندسين السعوديين؟ ولماذا لا يتجه الطلاب إلى كلية الهندسة لوجود فرصة عمل؟!
السبب الجوهري أن من يتخرج من كلية الهندسة، يجد أمامه خيارين للتوظيف إما القطاع الخاص أو القطاع الحكومي. فالقطاع الخاص يقوم من خلال الصحف بإعلانات كثيرة تطلب توظيف مهندس للعمل لديها بحوافز ورواتب مغرية وعندما تتقدم لهم تجد رواتب متدنية جدا أقل مما تتقاضاه في القطاع الحكومي تستشف بعدها أن الإعلان ليس مخصصاً للمهندسين السعوديين رغم كتابة عبارة (الأفضلية للسعوديين) على الإعلان والذي يهدف من ورائه صاحب العمل لاستقطاب مهندسين غير سعوديين لانخفاض تكاليفهم. وفي النهاية لن تجد أمامك إلا القطاع الحكومي حيث يتم تصنيف المهندس ضمن المراتب والسلم الوظيفي العام ويعين المهندس فيه على المرتبة السابعة درجة ثالثة براتب 5200 ريال تقريباً (طبعا قبل الزيادات الأخيرة). لتجد نفسك أمام موظفين يكون مبدأ التنافس فيما بينهم على المراتب لأنه المقياس الوحيد في هذا القطاع فنظام الخدمة المدنية لا يفرق بين مهندس أو فني أو إداري إلا من خلال المراتب والتي بناءا عليها يتم تحديد راتبه وعلاوته، فربما تجد أمامك في هذا القطاع زملاء فشلوا في دراستهم والتحقوا مبكرا بالقطاع الحكومي تجدهم أفضل منك راتباً ومرتبة. وهذا ما جعل المهندسين يعانون الإحباط من الوظائف الحكومية فتجد المهندسين داخل هذه القطاعات غير منتجين وعازفين عن العمل فالبعض منهم يهرب إلى القطاع الخاص مرة أخرى برواتب مغرية والبعض الآخر يبحث عن عمل إضافي خارج عمله فينشغل عن عمله الأساسي ليحصل على مصدر دخل يفي بمتطلباته الأساسية، ومن جهة أخرى نجد الشركات تستقطب المهندسين من خارج المملكة وتؤمن لهم راتباً وحوافز مغرية تاركين المهندسين السعوديين مقيدين بأنظمة أكل الزمن وشرب عليها، ومتى ما وجد هذا الوافد الفرصة مهيئة للعودة إلى دولته ترك عمله واتجه للعمل هناك. أما المهندسون السعوديون فقد تقطعت بهم السبل لعدم وجود تنظيم يضمن لهم حقوقهم، فلا عجب أن تجد مهندس صاحب مطعم أو حلاق أو بنشر كفرات لأنه رأى أن هذه المهنة الذي تعب من أجلها لم تكن سوى اسم فقط لا تستطيع أن تلبي احتياجاته المادية وبالتالي فإنه سوف يتوقف عن الاستمرار في تلقي علومه وخبراتها ويتجه إلى أي مهنة تستحق أن يتعب الشخص من أجلها، فما فائدة أن أكون مهندساً خبيراً في قطاع حكومي وأشرف على مشاريع بمئات الملايين وأنا لا أستطيع أن أؤمن لنفسي أبسط المتطلبات الأساسية، الدولة تنفق مليارات الريالات على المشاريع الحكومية والميزانيات التي ترصد لتلك المشاريع يقوم بالإشراف عليه مهندسون سعوديون حكم عليهم القطاع الحكومي باليأس، مما قلل من إنتاجيتهم في الإشراف على المشاريع، وإذا استمر الوضع كما هو عليه الآن فلن تجد هناك مهندسين سعوديين قادرين على القيام بالأعمال الهندسية. وسوف تبقى مهنة الهندسة والمهندسين في تخبط مستمر لعدم وجود تنظيم لها.
ولكن يبدو أن هناك بارقة أمل تلوح في الأفق ألا وهي (الكادر الهندسي) والذي طرح على مجلس الشورى وأقره بشكل مبدئي. وإذا لم تجد هذه البادرة دعماً فلن ترى النور إلى الأبد وسوف تدفن مهنة الهندسة في المملكة إلى الأبد.
وسوف يترك الطلاب كليات الهندسة ويتجهون إلى كليات أسهل في الدراسة وأكثر دخلاً من الهندسة، عندها تبقى الأعمال الهندسية واستشاراتها تحت رحمة المهندسين الوافدين الذين يتحكمون في مشاريعها وكأنك سلمت ميزانية الدولة في أيدي مهندسين مشرفين غير سعوديين. تاركين المهندسين السعوديين في القطاع الحكومي أسماء فقط بدون إنجاز لعدم وجود كادر يضمن لهم حقوقهم.