سارة بنت محمد بن سعود، قامة تسامقت للسماء وأشرِّف كل قامة حين أكنيهم بها، فهي لمن لا يعرفها (أم الفقراء والأيتام) و(سيدة الغوث) أقول ذلك وقد أعجزتني العبارات وأعرف أنه قد يحسب على عملي معها كسكرتيرة لها طوال العوام الماضية بأنني أكتب ذلك لمنافقتها أو طلب ودها، ولكني الآن أجدني في حل للحديث عنها قبيل تركها للعمل بأيام. العمل الذي غرست في حياضه بوزارة الشؤون الاجتماعية ريعان شبابها حيث التحقت به منذ كانت في عمر السادسة عشر عاماً وقتها كان القطاع النسائي غرفة ملحقة بمبنى وزارة الشؤون التي تعج بالرجال ومنه انطلقت لكي تؤسس قطاعاً نسائياً متميزاً يمتد بأرجاء بلادنا ويقدم الخدمات الإنسانية المتنوعة. وكانت فيه خير من يخطط ويشارك في التنفيذ ويشرف ويتابع بدقة حتى اجتمعت حولها فرق عمل محدودة من المخلصات أمثالها ليصنعون هذه الصروح النسائية القوية التي نراها اليوم لأنها بفضل الحكمة وبعد النظر وحسن إدارة استطاعت أن تخلق منهم فريق عمل متميز ومتماسك. حتى قاد بعض دول الجوار للقيام بالزيارات المتتابعة بهدف الاستفادة من تجربة المملكة المتميزة في هذه المجالات. متلمسين طريق شق بصعوبة لخدمة الفئات العاجزة والمحتاجة للعون فكان مفخرة لمجتمعنا الذي لا يزال حتى الآن بحاجة للمخلصات أمثالها.
لقد بذلت كل الجهد والعطاء ولم تتوانَ عن العمل كأصغر موظفة تشارك وتشرف على كل كبيرة وصغيرة ولعل أحدها وأبسطها مشاركتها العاملات في تنظيف دار الحضانة الاجتماعية بالقصيم قبل افتتاحها واستقبال الأطفال ذوي الظروف الخاصة.. وهي حفيدة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن مؤسس كياننا ووطننا. إن (سارة) لم يجعلها الكرسي تسود إلا على قلوب الذين أحبتهم من الضعفاء والمحتاجين واستطاعت أن تمتلك قلوب كل زميلاتها اللاتي طالما ساندتهن في حياتهن الوظيفية والعائلية تآزر وتشد على أيديهن وتعينهن بشتى الصور وتقوم أخطائهن وتصوب تصرفاتهن كزميلة وصاحبة خبرة حياتية وحكمة وبعد نظر. وهي التي لم تنتظر من أحد أن يقدم لها أي شيء وظيفي بل كان طموحها ينحصر في تقديم العون والمساعدة للناس. لم تتمنَ منذ كونها طفلة لا تدرك معنى الكلمات سوى (أن يجعل الله فيها نفعاً للناس) وقد نفع الله بها أناساً كثيرين ولازالوا.. وبحكم قربي منها طوال الأعوام السابقة اطلعت على أمور إنسانية تفوق التصور، ولعلي أذكر هنا وباقتضاب شديد بعضها... هل تتخيلون أحداً قبل المغرب في رمضان يخرج من بيته ليحمل أنواع الطعام غير المدرجة في جداول إعاشة النزلاء بدور الرعاية والتربية لكي يتناول الإفطار معهم؟ هل تتوقعون أن أي مسؤول يسمع عن انفجار حدث بالقرب من إحدى الدور التي يشرف عليها ينطلق ليراوغ الشوارع المسددة والعسكر الذين يطوقون المكان لكي يطمئن على النزلاء ولا يتركهم قبل أن يطمئن عليهم وينامون؟! هل تتخيلون أن أحداً يشرف على برامج الأعياد بكل تفاصيلها ويحرص على حصوله على كافة أرقام الموظفات المناوبات الخاصة لكي تتابع طوال تلك الفترة أحوال النزلاء حتى فجر العيد قبل أن تذهب مع شروق الشمس لكي تقوم بمعايدتهم وتقديم الهدايا لهم..؟! هل تتخيلون من يقوم قبل إجازته باستدعاء أطفال دار التربية - إن لم يستطع زيارتهم - أسراباً لكي يسألهم مباشرة عن نوع الهدية التي يرغب بها لنجاحه وتقديمها لهم وعلى نفقتها الخاصة؟! هل تتصور مكتب مسؤول تغص دواليبه ليس بالدروع وشهادات التقدير بل بألعاب الأطفال الذين تحرص على رؤيتهم ويحرصون هم على ذلك من أجل الاطمئنان على أوضاعهم لدى الأسر البديلة أو غيرها ولا يخرج أي طفل إلا بهدية ترضيه وحضن أم لازال يتذكره وإن كان بعضهم أصبح آباء وبعضهن أمهات..؟!
هل تتخيلون مسؤولاً حالياً يرفع شعار تحدي الواسطة (أنا ما أتوسط لأحد ولا أحد يتوسط عندي) شعار تمنيت لو أن المسؤولين يرفعونه نصابة إحقاق الحق والجدارة هي الأساس. لا أحد عندها يستطيع اجتياز الخطوط الحمراء لمصلحة الوطن والمواطن مهما ارتفعت مكانته أو وظيفته.
إنها بحق رمز لنساء الوطن الذين عملوا بصمت ولم يحملوا الشعارات أو تبهرهم أضواء الإعلام ليقدموا أنفسهم كناشطات اجتماعيات أو غيره من الألقاب فهي بعيداً عن الألقاب بدأت حياتها طالبة في المرحلة الثانوية تخرج من قصر صاحبة السمو الملكي الأميرة هيا بنت عبدالعزيز إلى حواري حي الأعشى بوسط الرياض القديمة لتعمل على فترتين بمركز الخدمة الاجتماعية تنطلق أحياناً مشياً على الأقدام إذا لم تتوفر وسائل مواصلات لكي تقنع الأهالي بإلحاق بناتهن بالمدارس وتفتح عصراً فصولاً لتعليم محو الأمية للأمهات. هي التي زارت الأسر لتوعيتهم الصحية والاجتماعية متحملة كل ما يتعلق بذلك من صعوبات وقامت بتوعية مبكرة قبل ما يقارب من أربعين عاماً حيث عمل المرأة غير مقبول ولا معروف ولا ميسر لسكان حي (الغالة) الفيصلية من أجل نشر الوعي الأخلاقي والاجتماعي والاقتصاي والصحي، واستمرت تقدم خلال مسيرة عملها الطويلة المساعدة والتعاون مع العديد من القطاعات من أجل المرأة والطفولة.
لن أستطيع مهما حاولت الحديث عن إنجازاتها مهما اجتهدت. ولذلك أقدم لها اعتذاري وأقدم لها اعتذار كل مخلص في هذا الوطن لم يستطع أن يقدم لها تكريماً أو تقديراً يناوش قامة عطائها المتميز.
عزاؤنا الصمت يا (سارة) فهكذا العظماء لا نلمس عظمتهم إلا بعد أزمنة لم يولدوا بها.
ألا ترون معي أن من بذل كل هذه الجهود العظيمة لم يتوانَ عن تقديم حياته وماله وأحلامه يستحق التقدير؟! ألا ترون أن من يعتبر نفسه ملكاً للشؤون الاجتماعية كما يحلو لها أن تردد يستحق التكريم على أعلى مستوى؟!.. إن تكريمها ليس بالأمر الشخصي وإن كانت تستحقه بل هو رمز لتقدير وتشجيع لكل الطيبين المخلصين لهذا الوطن، ودعوة لهم في الاستمرار بأداء رسالتهم لأنهم يوما ما سيجدون ما يستحقونه ولا ينتظرونه أو ينشدونه من تقدير جهودهم.