إن السيادة مطلب عزيز، وغاية صعبة المنال، يتطلع إليها كل ذي همة عالية وعزيمة قوية، والوصول إليها مرهون بالصبر على المكاره وتحمل أعباء المروءة من خلال بذل المكرمات والتسامح عن الإساءات وقبول التضحيات. والسيادة لها تكاليفها وعائداتها، إذ إن المتاعب التي يعانيها الإنسان في شرخ شبابه ومستهل حياته، والتحديات التي يواجهها في زمن الشباب تمثل السلم الذي يصعد عليه إلى ذرى المجد وقمم السؤدد في زمن اكتمال العقل والرجولة، بوصف المغارم يقابلها مغانم، والجهود السديدة تنتهي إلى نتائج حميدة، والمحامد تنضح بالشكر وحسن الذكر. |
والواقع أنه من الصعب أن يتبوأ الإنسان موقعاً من مواقع السيادة ما لم يتفقه في دينه، ويتمكن من معرفة أمور دنياه في زمن شبابه، حيث إن اكتساب القدر المناسب من العلم والمعرفة في الصغر يعد أمراً مطلوباً لمن أراد أن يسود في الكبر، حتى يحظى بالقبول من قبل الوسط الذي يعترف له بالسيادة، أما إذا خانته الموهبة، ولم يتعلم في صباه، وسوّدته الفرص والمصادفات، وهو غير مؤهل، فإنه قد يجد ما يزري به وتصبح سيادته وبالا عليه،، وقد قال الشاعر: |
وإذا أخذت المجد من أميِّة |
لم تعط غير سرابه اللماح |
وبالطبع فإن سيد القوم يتعين أن يتفوق عليهم بالعقل والمال والدفع والنفع، متحملاً الأذى منهم، ومؤدياً ما عليه من حقوق نحوهم، مظهراً ورعه، ومسيطراً على غضبه، ولن يتأتى ذلك لأحد إلا لمن بذل جهده، وقدم أفضل ما عنده في زمن الشباب ليسود في منتصف عمره، وازدهار أمره، مستفيداً من طول ما عاناه، ومثبتاً علو مستواه، جامعاً بين الموهبة الفطرية والعلم المكتسب والخبرة، بالشكل الذي يجعله يمتلك مؤهلات السيادة وتتوفر له معطياتها، وكما قال الشاعر: |
خليليّ قوما للمعالي وسارعا |
إليها فأيام الشباب قلائل |
وما الناس إلا اثنان ذلك عامل |
ينال الذي يرجو وذلك خامل |
أساس الشرف عهد الشباب فمن بنى |
عليه فلا يصعد به وهو مائل |
وإذا كان من أراد ارتفاع بنيانه، كان حريصاً على تقوية أركان هذا البنيان وتوثيق أساسه، فإن الإنسان الذي ينشد استقرار حياته وسعادتها، ويتطلع إلى أن يسود على غيره، لا غنى له عن مكابدة التعب ومعاناة النصب، حتى تسنح له الفرص وينفسح أمامه المجال، مستثمراً زمن الشباب والزراعة فيه، بما يخدم زمن المشيب وحصاده. |
وبذل الجهود هو المدخل لإثبات الوجود، والشاب الواعي يحرص دائما على إثبات وجوده والاعتراف به من قبل الغير من خلال تأكيد هويته وترسيخ بصمته في الوسط الذي يتعامل معه، معطياً انطباعاً حسناً وصورة إيجابية بما يبذله من جهد، ويعانيه من سهد على النحو الذي يجعله يكسب ثقة ومحبة والآخرين، وفي الوقت نفسه ينمي فيه مخايل السيادة ويجلب له السعادة. |
واعتماد الشاب على نفسه، ونفوره من الاتكالية والتعويل على الغير، يعد مدخلاً لتأهيله نحو السير على طريق السؤدد، والتطلع إلى المجد، علاوة على ما يعنيه ذلك من الدعوة إلى العصامية، ونبذ العظامية عن طريق توطين الذات على منهج الكرام، ومنعها عن ممارسات اللئام. |
وللتدليل على هذا القول نورد مثالين من الشباب المسلم، حيث قال معاوية لعمرو بن سعيد وهو صبي: إلى من أوصى بك أبوك عند موته؟ قال: أوصى إلي ولم يوصِ بي. ودخل عبيدالله بن زياد التيمّي على أبيه وهو يجود بنفسه فقال له: ألا وصي بك الأمير؟ فقال عبيد الله: إذا لم يكن للحي إلا وصية الميت فالحي هو الميت. وقال الشاعر في نحو ذلك: |
إذا ما الحي عاش بعظم ميت |
فذاك العظم حي وهو ميت |
والغلام الصغير قد يجد فيه المتوسم من علامات النباهة ودلائل النبوغ ما يجعله يصدر عليه حكماً بأنه سوف يكون له شأن في المستقبل، بفضل ما يتوفر للرائي من فراسة ويظهر على المرئي من سمات فطرية، تجسدها هيئته، أو نتيجة لاختبار المتوسم منه ما يوحي بأن عمره العقلي أكبر من سنه الحقيقي. |
وعلى ضوء النظرة المتوسمة والفراسة المحكمة وما يترتب عليهما من انطباع فإن دلائل الموهبة وشمائل الموهوب ناطقة بالصلاح، وداعية للارتياح، وإصدار الحكم، حيث نظر رجل إلى معاوية، وهو غلام صغير فقال: إني أظن هذا الغلام سيسود قومه، فقالت أمه هند: ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه. وقد رأى أحدهم المهلب وهو غلام. فقال فيه شعراً: |
خذوني بهم إن لم يسد سرواتهم |
ويبرع حتى لا يكون له مثل |
وتحمل الشاب المسؤولية منذ صغره، وترفعه عن صغائر الأمور، وابتعاده عن كل ما يخدش المروءة أو يطعن فيها، يضعه في مصاف العقلاء، ويدعو إلى التنبؤ له بالتفوق على الأقران ورجاحة الميزان، وإذا ما جمع بين ذلك وبين التحلي بالحلم وطلب العلم والنظر إلى الأمام، ظهر عليه شواهد لا تخطئها العين من مخايل السيادة وعلامات القيادة، وقد قال عدي بن حاتم لابن له حدث: قم بالباب فامنع من لا تعرف وأذن لمن تعرف، فقال: لا والله، لا يكون أول شيء وليته من أمر الدنيا منع قوم من الطعام. وكان أول ما عُرف سؤدد خالد بن عبدالله القسري أنه امتطى فرسه ومر في بعض طرق دمشق وهو غلام فوقع صبي صغير تحت الفرس وداسته بحوافرها فوقف عليه، ولما رآه لا يتحرك حمله، ثم انتهى به إلى أول مجلس مر به فقال: إن حدث بهذا الصغير حدث الموت فأنا سببه، أوطأته فرسي ولم أعلم. والسيادة في عموميتها تنطلق من معطيات تغذيها، ولها لزوميات تتحكم فيها، وهذه السيادة في إطارها العام قد لا يستوعبها زمن الشباب في صورتها المطلقة، إلا لمن حباه الله بسطة في الموهبة ومكارم الأخلاق، وهيأ له أسباب صقل المواهب ووسائل اكتساب المكارم، حيث إن السيادة على هذا المستوى، ترتكز على مرتكزات فطرية وتنبع من مواهب تلقائية ومهارات مكتسبة، تخضع ممارستها لأبعاد ائتمانية وبيئات اجتماعية، تمتزج فيها الصفات والممارسات بالصيغة التي يتحدد بموجبها حجم ومستوى السيادة وطبيعتها، وفي الوقت نفسه تكشف عن مكانة السيد وماذا يتوفر له من مقومات السيادة ولزومياتها، مفصحة عن مقدار علو كعبه ومدى استقامة دربه، وهل هو مطبوع أم مدعي؟ |
وهذا النوع من السيادة في الغالب يؤول إلى المرء، إذا ما بلغ عمره فوق سن الأربعين، عندما تتناهى به الأيام تهذيبا وتجريبا، ويمتد به العمر خبرة وحنكة، مضيفا رجاحة العقل إلى قوة الشباب، باعتبار أن من خرج عن دائرة باكورة الشباب ووخطه الشيب تجلت له حلْية العقل، وظهر له ميسم التجربة وشاهد الحنكة، مستحكما فيه الحلم والوقار، ومرتفعا عن مرتبة الحداثة إلى منزلة الرشد والحجى. |
وبالنسبة للسيادة في مفهومها الخاص وطابعها المهني والوظيفي، فتختلف كيفية الوصول إليها وشغل مواقعها، تبعا للفروق الفردية بين الشباب وطبيعة المواقع التي يشغلونها، والواجبات والمهام التي يزاولونها، إذ بالإمكان تسنم مناصبها والتدرج في مراتبها حسب ما يمتلكه هؤلاء الشباب من المواهب، وما يتحلون به من الصفات، ويبذلونه من الجهود، مع الأخذ في الحسبان أن من فرط في ذلك، وأهمل المبادرة وتقاعس عن طلب السيادة في زمن الشباب، فسوف يعض بنانه، نادماً على ضياع زمانه والتخلف عن أقرانه، مقيداً إياه الكبر، وطاوياً الدهر منه ما نشر، أما من أصبر على التعب وكرر المحاولة وأدام الطلب في سبيل الوصول إلى هدفه وبلوغ غايته، فقد تثمر جهوده وينال مقصوده، مهما جاوز من الشباب مراحل، وورد من المشيب مناهل. |
وثمة بعض الصفات التي يتميز فيها الشباب على الشيوخ، والتي تتمثل في قوة التحمل والحماس والصلابة وروح التضحية، وهذه الخلال وغيرها، تضفي عليهم نوعاً من الجسارة والحيوية، وتجعلهم أكثر قبولاً للتضحيات وأشد حرصاً على طلب المعالي والتطلع إلى السيادة، ناهيك عن نظرتهم إلى الحياة وزينتها، وما تعنيه تلك النظرة من جعل طلب المعالي والتطلع إلى السؤدد أولوية بعكس الشيوخ الذين يغلب عليهم حب المال والبنين، مكبلا ذلك إياهم ببعض القيود، وراسما لهم مسارا ضيق الحدود، كما تدفع المحافظة وتخشب العقول بعضهم إلى التهيب والإحجام، ولسان حالهم يقول: من نضب غدير شبابه، وهو لم يحقق شيئا من السيادة فأولى به أن يسقطها من حسابه. |
والزمن المناسب للتأهل والإعداد للسيادة وتسلم القيادة، هو سن الشباب، وقد قال الأحنف: السؤدد مع السواد، وهو يعني بذلك أن من أتته السيادة في شبابه وجد فيها بغيته وبلغ غايته، والسواد يقصد منه حداثة العمر وسواد شعر الرأس واللحية، وقد يذهب بمعناه إلى سواد الناس وعامتهم. وقد ولّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد مكة وهو ابن خمس وعشرين سنة، وولي معاذ اليمن وهو ابن أقل من ثلاثين سنة، وولي عبيد الله بن زياد خراسان من قبل معاوية وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وقاد محمد بن القاسم الجيوش وهو ابن سبع عشرة سنة، حيث قال فيه الشاعر: |
|
|
ومن زاوية أخرى فقد نظر الحطيئة إلى ابن عباس يتكلم في مجلس عمر بن الخطاب فقال من هذا الذي نزل عن الناس في سنه وعلاهم في قوله! وقال ابن مسعود: لو كان عبدالله بن عباس في السن مثلنا ما بلغ أحد منا عشر علمه، ونظر رجل إلى أبي دلف في مجلس المأمون فقال: إن همته ترمي به وراء سنه. |
وفي الزمن المعاصر وعلى مستوى الأمة السعودية، فإن المؤسس البطل عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل استطاع وهو في غرة شبابه ومقتبل عمره أن يستعيد حكم أجداده، ويبني مجد بلاده، مقدما المثل الناصع والدليل القاطع على أن الشباب والبطولة توأمان، وأن التضحية وعلو الهمة والطموح وعدالة القضية المبنية على قوة العقيدة، ما اجتمعت لأحد إلا جعلته يتبوأ قمة السيادة والأمة التي يقودها تحتل مكان الصدارة بين الأمم، مع إعطاء الدرس المفيد للجميع أن الإيمان بالقضية والتصميم على تحقيق الهدف كفيلان بذلك مهما عاكست الظروف وتفاقمت التحديات. وتخلص من كل ما سبق أن التطلع إلى السؤدد، وتسنم ذرى المجد، لا بد من الإعداد والاستعداد لذلك في بواكير الشباب وإقباله، ليتم الوصول إليه وبلوغه في أكثر مراحل العمر نضجا، وأفضلها تأهيلا، ومن لم يحالفه الحظ في هذا الوقت فلن يسعفه في زمن شيخوخته وخريف عمره، حتى لو تراكمت خبراته، وتضاعفت تجاربه. |
|