قراءة - عبدالله السمطي
اللوحة عند الفنانة التشكيلية نورة بنت ناصر النهاري تشبه الخلية الحية، فهي تنهض على إيلاف الجزئي، والمتناهي في الصغر، والتشكيل عبر مدلولاته الباطنية إلى حد بعيد، لذا لا نعجب كثيرا حين نرى النهاري تركز في لوحاتها على استثمار ما هو باطني، تشريحي، عرضي، للوصول إلى تكوين كلي للوحة.
بيد أن هذه اللوحة تتمثل التداخلات اللونية القزحية التي تنهمر من الداخل (البعد العميق للوحة) إلى الخارج (البعد السطحي للوحة)، فضلاً عن تمثلها هذا الغموض الباطني للإنسان. تنصرف نورة النهاري إلى الباطن، باطن الشيء، وهي لذلك تقوم بالتفتيت، والتجزيء، والتشتيت، تتحرك الفرشاة بشكل دقيق، انسيابي، دائري، خطوط، وفواصل، ونقاط، كتل صغيرة لونية، وظلالها، أو اللون وأصداؤه، هنا ثمة مشارفات لما يعتمل في الداخل، في الذهن. الأشياء على هيئتها العميقة اللا منطقية، لا على هيئتها المتصورة المعقولة.
إن هذا الأسلوب في استيعاب الباطني وتحويله إلى لوحة جمالية متعينة، ينقلنا دائماً إلى مخايلة الوعي الكامل (الوعي- اللا وعي) في حركة دائبة للبحث عن فوضوية التأويل.
لن تقودنا اللوحة تماماً إلى تحديد دلالة أحادية، إنما ستقودنا بلا شك إلى طرح هواجس وأسئلة.
في لوحتين بعنوان: (الحياة) - إحداهما تتشكل عبر لونين، فيما تتشكل الأخرى من جملة من الألوان المتداخلة- لا تأخذنا نورة النهاري إلى الحياة بصيغتها الدرامية المتصورة، حركة، أحداث، تفاعلات، بل تأخذنا إلى جوهر هذه الحياة، أو إلى صورتها الذهنية الباطنية، إلى تشريح الفعل الإنساني ذهنياً إزاء تجارب الحياة.
في مشهد لوحة (الحياة) دروب ومسارب ضيقة ومتعرجة تقطع اللوحة من الأعلى إلى الأسفل، وفضاء مزدحم بالوجوه والسيقان، والأجسام في تعبيرات مختلفة، تحمل متضادات الذوات الإنسانية نفسها، وتتضمن اللوحة المداخل والمخارج الأسطوانية الشكل، والتعرجات الجبلية أحياناً التي قد تشير إلى حركة الصعود والنزول وقساوتها، وكأنها حركة الحياة ذاتها.. واللونان المستخدمان بمثابة ضوء وظل، يكملان بعضهما البعض كصورة وصفية ذهنية لسطح الحياة وعمقها، ولبعدها الضدي الماثل: الأنا- الآخر، الخير- الشر، الفرح- الألم... الخ هذه الثنائيات المتضادة المتكاملة معاً.
وتزدحم أجزاء اللوحة الثانية الملونة بمشاهد الحياة المتعددة، تشق نورة النهاري شارعاً مزدحماً في وسط اللوحة بشكل سوريالي، متداخل، متراكب، متشظ في الآن نفسه، ولكن على طرفي الشارع، ويتواتر المشهد الجزئي من خلال ثلاث صور: المشهد نفسه بشكله اللوني الأساسي، ظل المشهد بشكله التجريدي، ظل المشهد بشكله الطبيعي، ويتم ذلك كله عبر خيال التصغير، فالمشاهد عبارة عن منمنمات جزئية متلاحمة، الباعة، والمشترون، والعابرون، والفضوليون، يحيطهم من بعيد ومن أعلى أفق بشمس مطفأة أو مظللة، وغيوم بنية اللون يابسة، وأشكال طيور، ويتأدى ذلك كله بانسياب لوني متداخل متواز معاً، دون فواصل أو فراغات إلا في أسفل اللوحة حيث بداية الشارع المزدحم، وأعلى اللوحة حيث الأفق المترامي.. إنه التعبير القزحي المتداخل عن درامية الحياة.
وإذا كان الموضوع الفني لدى نورة النهاري يتمثل في الجوهر في استثمار آليات الداخلي، الباطني، فإن تعميق هذا الاستثمار حدا بها إلى استلهام تفاصيل جسم الإنسان البيولوجية التشريحية في تقديم لوحة مغايرة، تتسع لحزمة من التأويلات والتلقي على المستوى السوريالي أولاً، وعلى مستوى التجاور التركيبي التكراري الموتيفي ثانياً، وهو ما يتجلى في لوحة بعنوان: (تكوين) حيث تشكل النهري لوحة زيتية عبر فضاءات لونين هما: الأزرق (بدرجاته)، والأسود، ويشكل هذان اللونان دلالياً الموضوع الباطني، حيث الغموض، والعتمة، وإيماضة الذاكرة.
ولوحة (تكوين) بمثابة نقل لخلايا الجسم الإنساني، إنها تركز على توليد شريحة من الشرائح الداخلية لهذا الجسم، على اعتبار أن تكبير هذه الشريحة والغوص في مكوناتها يعطي فضاءً جديداً للرؤية التشكيلية التي ستجاوز آنئذ سطوح الأشياء لتنفذ إلى العمق، فاللوحة هنا تقدم أوردة وشرايين وخلايا متقاطعة مع بعضها البعض، وتماثل نورة النهاري ما بين التصور الذهني الطولي المتعرج لأشكال الأوردة والشرايين، وبين مضمون اللوحة، وتصميمها التلقائي، ويصاحب ذلك تكوين عظمي: مفصل أو شريحة، وتكوين للأنسجة الدموية، وإن كانت الزرقة هي الغالبة في هذا التكوين فإن هذا يشي باستلهام عناصر الرسم الطبي للجسم الإنساني الداخلي الذي يعتمد على الزرقة في نقل حالة الجسم أثناء حركة التنفس.
الأسود هو خلفية اللوحة، حيث العتمة تصبح شاهداً على ما يترى أمامها من مشاهد الزرقة، والأزرق المضاء أحياناً بدرجات متعددة تتقاطع ظلاله بشكل طولي على الأغلب، عرضي مائل أحياناً، من خلال مسافات صغيرة فاصلة تحددها الخطوط، وتؤازرها الاستدارات الصغيرة التي تتوزع بشكل متجانس في اللوحة. إن نورة النهاري تسعى لتوسيع هذا الحقل الباطني التجريبي، وهي تشكل لوحتها في فضاء سوريالي لا يقف دائماً أمام عتبات المطلق إلا ليستهل رحلته لمتأملة التي تستشرف ما هو داخلي متعدد، متجاور، رهيف.