بين يدي حالتان فكريتان تعبران عن واقع متباين في فهم حقيقة الإسلام وقيمه العليا ومرجعيته التشريعية، الأولى (إجابة) ذكية من شخصية دينية معتبرة في الوسط السعودي، والثانية (فتوى) غريبة من شخصية فكرية جدلية في الأوساط الثقافية المصرية.
الإجابة جاءت على لسان الشيخ الدكتور صالح بن حميد رئيس مجلس الشورى حول الإسلام المتسامح على هامش محاضرته في الجامعة الإسلامية، موضحاً فيها أنه لا يوجد شيء اسمه (الإسلام المتسامح)؛ فالإسلام هو الإسلام الواحد؛ لأن مقولة إسلام متسامح تفترض وجود إسلام متشدد، مؤكداً في جانب آخر أن كلام المثقفين عن (لبرلة) الإسلام لا يُعتد به. أما الفتوى الغريبة فأطلقها المفكر جمال البنا في معرض حديثه لقناة (الساعة) الفضائية، عندما أباح (القبلات) بين الشباب والفتيات في الأماكن العامة، معللاً أن هذا النوع من القبلات التي تتم بين غير المتزوجين هو من (الضعف البشري)، الذي يدخل في دائرة اللمم المشار إليها في القرآن الكريم وهي (صغائر الذنوب). هذه الفتوى ليست الأولى لهذا المفكر الجدلي؛ فسبق له أن أفتى بتحقق الزواج برضا الطرفين (المرأة والرجل) دون الحاجة إلى ولي قائم وشهود حضور ومهر مقدم، كما أنكر أن يكون الحجاب من الإسلام، وشدد على ضرورة الاختلاط.. إلى غير ذلك من غرائب مدرسته العقلية.
المفارقة بين الإجابة (المتعقلة) والفتوى (المتفلتة) أن المفكر غير المؤهل هو من يفتي، والشيخ المؤهل هو من يجيب، بينما المنطق يفترض العكس، وهو ما يعكس حجم المسافة بين الشخصيتين في فهم حقيقة الإسلام وتقرير مرجعيته التشريعية التي لا تعتمد المصدرين الرئيسين القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ فالشيخ ابن حميد قطع كل رأي ينزع إلى تشظية الإسلام، كما ألغى أية فكرة تحاول أن تمازج بين الإسلام والليبرالية، حتى وإن اتفقت الليبرالية مع الإسلام في الدعوة لتقرير القيم الإنسانية من (حرية ومساواة وعدالة)، كون الشيخ يدرك تماماً بعلمه الشرعي وسعة أفقه الفكري أن الإشكال بينهما يكمن في (المرجعية الحضارية)؛ فهناك تعارض جليّ بين مرجعية الإسلام المتمثلة في الوحي (القرآن الكريم والسنة الشريفة)، وبين مرجعية الليبرالية المتمثلة في (العقل البشري).
الأمر بالنسبة للمفكر حسن البنا على النقيض؛ فأفكاره العصرية المتحررة وآراؤه الدينية الجدلية تنصب في اتجاه تحويل الإسلام إلى دين (عقلاني بحت) تقوم فيه مسألة (الحلال والحرام)، التي تحدد العبادات الدينية والمعاملات الدنيوية والعلاقات الإنسانية، على حكم العقل في مصلحة الفرد، وهذا هو جوهر (الفلسفة الليبرالية) في تمكين العقل من صياغة الواقع وتحقيق الحرية الفردية بكل مستوياتها، وهي فلسفة مادية خطيرة ستؤدي في نهاية الأمر إلى (إسلام مفرغ) من عقائده الثابتة، وأصوله الفقهية، وأحكامه الدينية، بحيث يكون إسلاماً متعلمناً في طبيعته الواقعية، يتجلى فقط في الممارسات الأخلاقية النابعة من النفس البشرية، والطقوس الروحانية المحصورة في دور العبادة، فينفصل النص المقدس (الوحي) الذي هو روح الإسلام ومصدره عن الحياة التي هي الواقع الحقيقي للإنسان لعمارة الأرض، فيفقد الفرد المسلم منهاجه الحياتي بفقدانه المرجعية الإسلامية المعتبرة.
ما سبق ليس من قبيل الافتراض الفكري أو الاستنتاج العقلي، إنما هو المحصلة المتوقعة وفقاً للتحولات الفكرية التي حكمت رؤية المفكر جمال البنا في مشروعه الحضاري، الذي أعلنه بدعوى (الفقه الجديد للإسلام)، وهو مشروع يتبنى الثورة العقلية على مجمل الفقه الإسلامي على امتداد تاريخ الأمة بكل مذاهبها، من خلال محورين؛ الأول أنه يرى (الاجتهاد) مطلقاً بلا قيد وحسب رأي الفقيه وإن خالف علماء الأمة، والآخر أنه يحدد مصادر الفقه الإسلامي التي يراها فقط في (النصوص الدينية) من قرآن وسنة، مستبعداً الإجماع مصدراً فقهياً؛ لأنه بنظره خرافة، أو المصادر الأخرى (الفرعية) كشرع من كان قبلنا أو مذهب الصحابي أو باب سد الذرائع وغيرها، غيره، أنه يعيد تعريف (النص الديني) بأنه القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وصحة السنة التي يراها هي في الأحاديث النبوية التي ثبتت لديه بمعايير وضعها تصل إلى اثني عشر معياراً تختلف عن معايير أهل الحديث على مستوى المنهج أو التطبيق، وهو ما جعله يخضع السنة النبوية لغربلة فكرية وتصفية شاملة، فكانت النتيجة استبعاده كثيراً من الأحاديث النبوية الصحيحة والمشهورة بإجماع علماء الحديث، وليت ثورته العقلانية اقتصرت على (النص النبوي)، بل تعدى ذلك إلى (النص القرآني)، الذي هو أصل الديانة؛ فابتدع منهجاً جديداً في التعامل مع الآيات القرآنية يقوم على رفض كل التفاسير السابقة للقرآن الكريم، واضعاً تفاسيره الخاصة، كما وضع قواعده وآلياته في فهم النص القرآني التي لا تتفق مع ما وضعه علماء السلف، كل ذلك أنتج لديه رؤية خاصة في مسألة (الحلال والحرام)، مرتبطة بالضرورة والعلة (السبب) والفائدة (النفعية)، وهي مقاربة تماماً للفلسفة الليبرالية في جعل (العقل) المقياس والمرجعية في الأحكام والأحوال الحياتية؛ فالخمر محرم لأن علة التحريم (ذهاب العقل)، كما أن إعداد بحث علمي أفضل من أداء السنن؛ لأن فيه (منفعة) تفوق الصلاة.. وهكذا نجده ترجم كل آرائه الدينية في أحوال الزواج والمرأة، وقضايا العصر من فن أو سياسة أو اقتصاد وإعلام إلى غير ذلك، بهذا الفقه (العقلاني المجرد) المحكوم بالمصلحة الفردية، ما يعيدنا إلى تلك الإجابة القاطعة من الشيخ الدكتور صالح بن حميد التي ترفض لبرلة الإسلام.
Kanaan999@hotmail.com